بعد عرض قولي العلماء في هذه المسألة، وأدلتهم، ومناقشات الأدلة؛ تبيَّن أن القول بأن الأصل في المعاملات الإباحة أرجح من القول بأن الأصل فيها الحظر؛ لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة، وضعف أدلة القائلين بأن الأصل في الأشياء الحظر، وعدم انفكاكها عن المناقشات".
هذا وجه الترجيح، وهذا اجعله قاعدة عندك في كل قول ترجحه، لابد أن يكون دليلك صحيحًا سليمًا من المناقشات، وأن يكون أدلة القول الآخر المرجوح، إما غير صحيحة، وإما أن تكون صحيحة في ثبوتها، لكنها غير سليمة من جهة دلالتها على الحكم، ولا تسلم من المناقشات.
"ولما ما في هذا القول من المشقة والحرج الذي لا تأتي به شريعة أرحم الراحمين".
هذا مزيد توثيق، عادةً في الترجيح بعد ما يخلص الباحث، أو العالم، أو المُرجح من ذكر الأدلة، ومناقشتها، وإقامة الأدلة، لصحة قوله، ومناقشة أدلة المخالفين، يأتي بمزيد توثيق، وتعزيز لما ذهب إليه من ترجيح، وهو ما أشار إليه هنا من أن القول بأن الأصل في المعاملات التحريم والحظر؛ قولٌ فيه مشقة، والشريعة لا تأتي بما فيه مشقة.
يوضِّح ذلك بقوله:
"فليس للناس بُدٌّ من المعاملات والعقود، وتكليفهم طلب الدليل لكل ما يتعاملون به، مما لا دليل على منعه، يتضمن تعطيل مصالح الناس، وإلحاق المشقة والعنت بهم.
قال الجويني: "ووضوح الحاجة إليها، أي إلى إباحة العقود التي لم يأت في الشرع تحريمها، يغني عن تكَلُّف بسط فيها، فليُصدروا العقود عن التراضي فهو الأصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع أصل، وليجروا العقود على حكم الصحة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها، إلا ما دلَّ الكتاب والسُنَّة على تحريمه".
الآن انتهينا من الترجيح، وهو أن الأصل في المعاملات الحلُّ؛ لما تقدَّم من الأدلة؛ ولأن المطالبة بالدليل لكل معاملة مشقة لا تأتي بمثلها الشريعة.
الآن؛ إذا تقرر عندنا هذا الأصل، وهو أن الأصل في المعاملات الحل، والإباحة، هذا برهان وحُجة ساطعة قوية عليها أدلة. يأتي الخلل في كثير من الأحيان في هذه القاعدة، ليس من أصلها، إنما من تنزيلها، وتفعيلها.
فعندما يكون العالم، أو الباحث، أو الناظر في حكم مسألة من المسائل، قليل القدرة، أو ضعيف القدرة، أو قليل النظر في حقيقة المعاملة، وتفاصيلها، يُبادر مباشرة إلى القول بالإباحة – بناءً على أن الأصل في المعاملات الحل –، مع عدم استيفاء النظر في أسباب التحريم؛ هل في المعاملة ربا؟ هل في المعاملة غرر؟ هل في المعاملة ظلم؟ هل في المعاملة ميسر؟ هل في المعاملة تدليس؟ هل إباحة المعاملة يُفضي إلى مفسدة، فيكون الإشكال ليس في أصل القاعدة، إنما في أن استعمال القاعدة لم يكن صحيحًا.