اتَّفقت الشرائع الإلهيَّة، على وجوب العدل في كلِّ شيءٍ، وعلى كل أحد؛ وتحريم الظُّلم في كلِّ شيء وعلى كل أحد، فأرسل الله - جلَّ وعلا - الرسل، وأنزل معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط والعدل في حقوقه - جلَّ شأنه - وفي حقوق عباده؛ كما قال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].
وتأكيدًا لوجوب العدل، وتحريم الظلم، حرَّم الله الظلمَ على نفسه أولًا، ثم جعله بين الخلق محرَّمًا، فقال - تعالى - في الحديث الإلهي: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا» أخرجه مسلم (2577) .
فالظُّلم لا يباح شيءٌ منه بحال، والعدل واجب في جميع الأحوال، فلا يحِل لأحد أن يظلم غيره، سواء كان مسلمًا أو كافرًا؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8].
وذلك أن الظلم أصل الفساد، والعدل أصل الفلاح، به تقوم مصالح العباد في المعاش والمعاد، فلا غِنى بالنَّاس عنه على كلِّ حال؛ فهو أوجب الواجبات، وأفرضُ الطَّاعات".
هذه المقدمة في بيان منزلة العدل والظلم في الشريعة، وبه يتبين أن الشريعة مدارها على تحقيق العدل، والعدل هنا ليس مقصورًا على ما يكون بين الناس من معاملات بل هو أوسع من ذلك، هو في معاملة الإنسان للخلق، ومعاملة الإنسان للخالق؛ ولذلك يقول الله جل وعلا: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[البقرة:254] ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾[الأنعام:1]؛ أي: يسوون به غيره فيظلمون بهذه التسوية، ويجورون بهذا الميل والانحراف عما يجب في حقه جل في علاه؛ ولهذا الظلم يقع في صلة العبد بربه، وفي صلة العبد بالخلق.
والشريعة جاءت لتحقيق العدل في صلة الإنسان بربه، وفي صلة الإنسان بغيره؛ ولهذا مدار الشرائع جميعًا على هذا الأصل؛ كما قال الله جل وعلا: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالحجج الواضحات {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} والمقصود بالميزان: العدل في صلة العبد بربه، والعدل في صلة الإنسان بغيره من الخلق، ولذلك قال: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد:25] أي: لأجل أن يقوم الناس بالعدل، في صلة العبد بالله وفي صلة العبد بالخلق.
بعد هذا قال المؤلف رحمه الله: "فهو أوجب الواجبات، وأفرض الطاعات".
ولا ريب أن العدل أوجب الواجبات؛ لماذا؟ لأنه الأصل الذي تستقيم به كل أحوال الإنسان في صلته بالله وفي صلته بالخلق، فهو معنى جامع يستقيم به دين الإنسان ويصلح به صلته بربه، ويصلح به صلته بالخلق.