"قال ابن القيم -رحمه الله-: ((وإذا تأمَّلتَ أحوال هذه المغالبات؛ رأيتَها في ذلك كالخمر، قليلُها يدعو إلى كثيرها، وكثيرُها يصدُّ عما يُحبُّه الله ورسوله، ويُوقع فيما يُبْغِضه الله ورسوله، فلو لم يكن في تحريمها نصٌّ لكانت أصولُ الشريعة، وقواعدها، وما اشتملت عليه من الحِكَم والمصالح، وعدمُ الفرق بين المتماثلين، توجبُ تحريم ذلك، والنَّهيَ عنه)).
ولمَّا كانت شريعةُ الإسلام قائمةً بالعدل والقِسط في جميع أحكامها، وما جاءت به؛ منعت كلَّ المعاملات التي يدخلها الميسر؛ وضابطُ ذلك هو: كلُّ المعاملات التي يكون الداخل فيها متردِّدًا بين الغُنم أو الغُرم، النَّاشئين عن غررٍ محضٍ ومخاطرة، ويكون ذلك سببًا لوقوع العداوة والبغضاء بين النَّاس".
هذا ضابط المعاملات التي تحرُم؛ لأجل كونها من الميسر، هي: أن يكون الداخل في هذه المعاملة مترددًا بين الغُرْم والغُنْم، بين الرِّبح والخسارة.
لكن هذا الربح وتلك الخسارة ليست ناشئةً عن طبيعة العقد، إنما ناشئة عما يمكن أن يحْتَفَّ بالعقد من ظروف وأحوال، أما ما كان ناشئًا عن غررٍ محض يتعلق بطبيعة العقد، فإنه في هذه الحال يكون من الميسر؟.
الآن كل التجارات يدخلها الناس وهم بين ربحٍ وخسارة، لكن هذا الربح وتلك الخسارة ليست ناشئةً عن جهالة في طبيعة العقد الداخل فيه، ليست ناشئةً عن العقد ذاته، إنما تنشأ عما يمكن أن يَحْتَفَّ بالعقد من ظروف وأحوال قد تُفْضِي بحال الشخص إلى ربحٍ أو إلى خسارة، وبينهما فرق.
فأنا أشتري هذا، وشرائي واضح، بثمن واضح، وأتملَّكه، ثم أنزل به إلى السوق؛ لبيعه والمتاجرة به، ما يتعلق بالربح والخسارة ليس له صلة بالعقد الأساسي، فالعقد الأساسي بذلت فيه مالًا، تملَّكت فيه عينًا، حصل لي المقصود بتملُّك العين، وحصل للبائع المقصود بتملُّك الثمن، ثم ما يتعلق بالربح والخسارة أمرٌ خارج عن طبيعة العقد، بل هو ناتج عن رغبة الناس في هذا النوع من السلع، وفرة هذه السلعة، قِلَّتها، وما إلى ذلك مما لا دخل فيه للإنسان، وليس من طبيعة العقد.
بخلاف ما إذا دخلت في عقد بطبيعته لا يمكن أن يتم إلا بربحٍ أو خسارة، كأن أقول لك على سبيل المثال: إن أصبت هذا الكأس فهو لك بعشرة، وإن لم تصبه ذهبت عليك العشرة، فآخذ منك عشرة ريالات، الآن أنت دائر بين الإصابة؛ فتربح، وهذا قد تكون قيمته عالية، وقد لا تتحقق الإصابة؛ فتخسر هذه العشرة. إذًا الآن الربح والخسارة من طبيعة العقد ذاته ليس من أمرٍ خارج، وبالتالي يكون هذا من الميسر المحرَّم، وهذا هو الفارق بين ما يكون من التجارات الدائرة بين الربح والخسارة، وبين العقود المحرمة لأجل الميسر، فإن بناءها متردد بين ربحٍ وخسارة ناشئين عن غررٍ محض ومُخاطرة.