"بَابٌ إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا"
وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا. وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا يُنَادِي فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ؛ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ أَوْ فَلْيَصُمْ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلَا يَأْكُلْ".
قوله رحمه الله: "بَابٌ إِذَا نَوَى بِالنَّهَارِ صَوْمًا" أي: حكم نية الصيام بالنهار، هل تجزئ أو لا؟ وهل الفرض والنفل في ذلك سواء أو لا؟
ذكر المصنف رحمه الله عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يبتدئون صيام النفل نهارًا، نقل ذلك عن أبي الدرداء، وكذلك عن أبي طلحة وأبي هريرة وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم جميعًا، وهذا الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث عائشة، ولم يذكره المؤلف لأنه ليس على شرطه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل عليهم فيقول: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟» فيقولون: لا، فإذا قالوا ذلك قال: «فَإِنِّي إِذَنْ صَائِمٌ»مسلم (1154).
وهذا يدل على أنه ابتدأ الصوم بنية من النهار، وهو في صيام نفل؛ لأنه لو كان فرضًا لما سأل عن الطعام، هذا واضح وجلي فيما يتعلق بصيام النفل، وهو قول جمهور العلماء.
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه لابد من نية من الليل في صيام الفرض والنفل، واستدلوا بقوله في حديث حفصة: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ»سنن أبي داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (2334)، وصححه ابن خزيمة (1933).
وذهب طائفة إلى أنه يفرَّق بين صيام النفل المطلق وصيام النفي المقيد، صيام النفل المطلق يجوز فيه بنية من النهار، وأما صيام النفل المقيد، وهو كل صوم ورد في فضله أجر خاص، مثل صوم عرفة، صوم يوم عاشوراء، فلا بد فيه لإدراك تلك الفضيلة من نية بالليل.
والصواب من هذه الأقوال أنه لا فرق في جواز الصيام بنية من النهار في صيام النفل المطلَق والمقيد، كلاهما على حد سواء؛ لعدم التفريق فيما يظهر، ومن قال بالفرق يحتاج إلى دليل.
أما ما يتعلق بالفرض فجمهور العلماء على أنه لا بد من نية من الليل، وذهب الحنفية إلى أنه يجوز أن ينوي صيام فرض بنية من النهار.
وهذا في القضاء واضح، وكذلك فيما يتعلق بصيام الواجب في غير رمضان، وكذلك في صيام رمضان؛ فإنه إذا قلنا: يجب بنية من الليل لكل يوم؛ فإذا نام قبل المغرب اليوم مثلًا، وهو من رمضان، واستيقظ بعد الفجر من اليوم الثاني، لم يصح صيامه في ذلك اليوم؛ لأن صيامه في ذلك اليوم، الذي هو اليوم الثاني، لم يكن بنية من الليل، ونحن نقول: على القول بأنه يجب بنية من الليل لكل ليلة على وجه الانفراد، ولكن الصواب في هذا أنه لا بد من نية من الليل في صيام الفرض ليتحقق المأمور به، وهو الامتثال في صيام كل اليوم، والله تعالى قد قال في صيام الفرض: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ البقرة: 187. وهذا لا يتحقق إلا بأن ينوي الصيام من الليل.
كما أنه تعتضد هذه الدلالة بما جاء في المسند والسنن من حديث حفصة رضي الله عنها: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ». وجاء مثله عن عائشة: لا صيام لمن لم يجمعْه من الليل. يعني: لم يبيته من الليل.
وهذا القول وسط بين الأقوال؛ أن صيام الفرض لا بد فيه من نية من الليل، وأما صيام النفل فإنه يصح بنية من النهار، سواء كان نفلًا مطلقًا أو كان نفلًا مقيدًا.