"يُشرع أيضًا في أيام التشريق: المكث في مِنى لا سيما ليلًا ونهارًا، لا سيما المبيت بها أكثر الليل، فهو واجبٌ من واجبات الحج على المستطيع؛ فقد رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في ترك المبيت للسقاة والرعاة، ويلحق بهم من في خدمة الحجيج".
مما يُشرع للحاج خاصةً في هذه الأيام المُكث في مِنى؛ فإنَّ السنة أن يبقى الحاج أيام التشريق في مِنى ليلًا ونهارًا كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فإنه لما فرغ من طوافه بالبيت في يوم النحر رجع، ومكث في مِنى بقية اليوم، وسائر أيام التشريق لم يعد -صلى الله عليه وسلم- إلى البيت، ولم يشتغل بشيءٍ خارج مِنى؛ ولهذا أجمع الفقهاء على أن المبيت بمِنى ليالي التشريق من شعائر الحج إلا من رخص له النبي -صلى الله عليه وسلم- في ترك البيتوتة، هذا محل إجماع.
وقد ذهب جماهير أهل العلم من المالكية، والشافعية، والحنابلة إلى أن المبيت بمِنى واجبٌ من واجبات الحج، وهذا من توابع المكث، ولهذا قال المؤلف هنا: "لا سيما المبيت بها أكثر الليل، فهو واجبٌ من واجبات الحج"، وهذا قول جماهير العلماء.
ودليل أن المبيت واجبٌ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرخص للرعاة في البيتوتة عن مِنى. أخرجه النسائي (3068)، وصححه ابن خزيمة (2976). وكذلك رخص لعمه العباس في البيتوتة عن مِنى؛ لأجل سقايته. أخرجه البخاري (1634)، ومسلم (1315) والرخصة إنما تكون عن الشيء الواجب اللازم، فالتعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، فهذا أصلٌ في أن المبيت بمِنى ليالي أيام التشريق مأمورٌ به على وجه الوجوب، وإلا لكان ترك المبيت يجوز دون رخصة لأحد، لو كان مما للحاج فيه خيار.
والقدر الواجب من المبيت: هو مُكث أكثر الليل، وهو ما أشار إليه بقوله: "لا سيما المبيت بها أكثر الليل".
والمقصود بالمبيت: هو المكث نائمًا كان أو يقظان.
ومما ينبغي أن يتنبه إليه أن هذا الحكم في حق من له مكان وإمكان أن يأتي إلى موضعٍ في مِنى، أما من لا مكان له كالذين تكون حملاتهم خارج مِنى فإنه لا يجب عليهم المبيت، يسقط في حقهم المبيت، فلا شيء عليهم في تركه، ولا حاجة إلى التكلف في دخول مِنى ليلًا بحثًا عن مكان؛ لأنه لا مكان في مِنى إلا وهو إما لحاجٍّ أو لخدمة حاج ومصالحه، فليس في مِنى اليوم أماكن شاغرة تُطلب حتى يُقضَى فيها الليل.
وأما المكث في الطرقات، والكباري، فهذا من الأذى الذي ينبغي للحاج أن يتجنبه فـ«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» أخرجه البخاري (10)، ومسلم (40) .
ومن سقط عنه وجوب المبيت لعدم المكان في مِنى؛ فإنه يبيت حيث تيسر له. وقد قال بعض أهل العلم: إنه يمكث في أقرب مكان يلي مِنى إن تيسر له. وهذا القول له وجه؛ فإن ما قارب الشيء يُعطى حكمه، لكن الإلزام به ليس عليه دليل؛ لأنه إذا سقط فرض المجيء إلى المكان فإنه لا يجب عليه أن يقصد قربه.
وأما من احتاج إلى البقاء خارج مِنى ولو كان له مكان كالقائمين على خدمة الحجيج سواءً كان ذلك في أمر الأمن أو الطب أو التعليم الشرعي أو خدمة الحجيج بقضاء مصالحهم فإنه يسقط عنهم المبيت؛ لترخيص النبي -صلى الله عليه وسلم- للرعاة والسقاة.
أما من ترك المبيت مع قدرته عليه دون عذر؛ فإنه قد ترك واجبًا، وجمهور العلماء يلزمونه بدم؛ لأثر ابن عباس: "مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا" أخرجه مالك في الموطأ (1485)، والدارقطني في سننه (2536)، والبيهقي في الكبرى (8925)، وضعَّف الألباني رفعه في الإرواء (1100) وقد رواه مالك والدارقطني وغيرهما، ورُوي مرفوعًا عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
إذًا أول ما يتعلق بالأعمال في أيام التشريق: المكث في مِنى، ومنه المبيت.