قول الله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ في سبعة مواضع في سورة الأعراف قوله ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾[الأعراف: 54] وقال في سورة يونس: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾[يونس: 3] وقال في سورة الرعد: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾[الرعد: 2]، وقال في سورة طه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[طه: 5] وقال في سورة الفرقان: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾[الفرقان: 59] وقال في سورة آلم السجدة: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾[السجدة: 4]، وقال في سورة الحديد: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾[الحديد: 4].
العرش أعظم المخلوقات:
هذه الآيات الكريمات تخبر عن عظيم وصف الله –عز وجل- الذي ذكره في سبعة مواضع من كتابه، وهي صفة الاستواء على العرش، الله جل في علاه أخبر في سبع مواضع من القرآن الحكيم أنه استوى على العرش، والعرش هو أعظم المخلوقات قدرًا، فإن الله تعالى خلقه وخصه بهذه الخاصية التي ميزه بها دون سائر الخلق، فليس ثمة أعظم خلقًا من العرش.
وقد استوي عليه جل في علاه، وهذا الاستواء يعلم أهل اللسان العربي معناه، ولهذا لما سئل الإمام مالك –رحمه الله- عن معنى الاستواء فقيل له: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ما استوي؟ أخذته الرحضاء من شدة السؤال لأنه علم أن السائل في قلبه انحراف، إذ أن هذه الكلمة يعلمها العرب ويعرفون مدلولها وهو العلو على العرش، وقد سمعها أصحاب النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهم أصحاب اللسان ولم يقع في قلبهم ريب من معناها ولا استشكال لمدلولها.
فلما سئل –رحمه الله- في الحلقة عن هذا علاه الرحضاء، وهو شدة العرق، ثم رفع رأسه فقال للسائل: الاستواء معلوم؛ أي الاستواء معلوم المعنى يعرفه كل من يعرف اللسان العربي.
والكيف مجهول؛ أي وكيفية استواء الله –عز وجل- لا سبيل إلى علمها لأننا لا نعلم كيف هو –سبحانه وبحمده- فلا تحيط عقول العباد بكيفيته، ليس كمثله شيء –سبحانه وبحمده- ليس له مثيل ولا نظير حتى تعلم كيف صفاته، فإذا كنت لا تعرف كيفية الشيء وحقيقته فإنك لن تعرف كيفية صفاته، لأن كيفية الصفات لا تعلم إلا بعلم كيفية الذات أو برؤية شبيه له، والله عز وجل لم يره أحد، وسبحانه أن يكون له شبيه.
لو قلت لك: أخبر الله تعالى في كتابه أن روحك تُقبض وأنها ترد، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ﴾[الزمر: 42] فكيف هذا يكون؟ كيف تتوفى الأرواح في حال المنام لا نعلم ذلك لماذا؟ لأننا لا نعلم كيفية الروح وهي خلق من خلق الله، فإن كيفية الروح مجهولة لبني آدم لا يعرفون كيفية أرواحهم التي بها يحيون وهي جزء الإنسان، فالإنسان مركب من روح وبدن فإذا كان الإنسان يجهل حقيقة هذه الروح وحقيقتها صفاتها كيف يطلب أن يعرف كيفية صفات الرب جل في علاه؟
ولذلك قال: الكيف مجهول. لا سبيل إلى العلم بكيفية صفات الله –عز وجل- لماذا؟ لأننا لا نعرف كيف هو حتى نعرف كيف صفاته –سبحانه وبحمده- ولذلك قال: الكيف مجهول، ثم قال: والإيمان به واجب؛ أي الإيمان باستواء الله على العرش واجب على كل مؤمن، لماذا؟ لأن الله أخبر به في كتابه وما أخبر الله تعالى به في كتابه وجب الإيمان به، والإيمان هو الإقرار المستلزم للإذعان والقبول.
ثم قال –رحمه الله-: والسؤال عنه بدعة، أي: والسؤال عن كيفية الاستواء بدعة، إذ إن ذلك لا سبيل إلى معرفته ولو كان خيرًا لسأل عنه الصحابة.
وعلى هذا أجمع علماء الأمة، بل إن إثبات الاستواء لله –عز وجل- أن جاء فيه في خبر الأولين والآخرين فجميع المؤمنين الأولين والآخرين على إثبات استواء الله –عز وجل- فالاستواء ثابت في كتاب الله –عز وجل- وعلى لسان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وفي إجماع علماء الأمة أن الاستواء ثابت لله –عز وجل- على الوجه اللائق به.
وهذه الصفة صفة الاستواء صفة سمعية يعني ثبتت بالنص، ليست صفة معنوية تثبت بالعقل، إنما هي صفة سمعية ومعنى الاستواء العلو على العرش ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ أي علا على العرش –سبحانه وبحمده- جل في علاه.
علو مطلق ثابت على كل الخلق ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾[الملك: 16]﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾[الأنعام: 18]، ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾[الأعلى: 1]، ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البقرة: 255] فعلوه جل في علاه على جميع خلقه دلت عليه الأدلة في الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة، وهذا علو على كل خلقه.
ثم هناك علو خاص وهو علوه على العرش.
وهذا مما يضاف إلى العرش دون غيره وهو الاستواء، ولذلك الاستواء لا يضاف إلى شيء من الخلق إلا للعرش، فلا يقال: استوي على الخلق، ولا يقال: استوي على السماء، وإن قيل: (استوى إلى السماء) فمعناها مع (إلى) معنى آخر، وهو القصد أي (قصد إلى السماء).
فالشاهد أنه لا يقال: إلا استوي على العرش دون سائر ما يكون من الإضافات المطلقة أو المقيدة المطلقة استوي على الخلق، والمقيدة استوي على السماء كل ذلك لم يأت به نص ولا يثبت لله –عز وجل- لأن الاستواء صفة خاصة بالعرش خص الله العرش بذلك وميزه دون سائر الخلائق.
فلا يضاف إلا إلى العرش، ولهذا أخبر الله تعالى باستوائه على عرشه، إذًا الاستواء معناه العلو ثم الاستواء في كلام الله –عز وجل- وفي كلام العرب يأتي مطلقًا ويأتي مقيدًا، يأتي مطلقًا أي دون أن يعدى بحرف ودون أن يقترن به حرف يدل على معناه تقول: استوي النبات، استوت الثمار أي كملت ونضجت ومنه قوله –جل وعلا- في قصة موسى ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾[يوسف: 22] فذكر الاستواء وهو الكمال في حق اثنين، في حق يوسف، وفي حق موسى عليهما السلام.
وهذا الاستواء المطلق، أما الاستواء المقيد فيأتي مقيدًا ب(إلى) أو ب(على) أو ب(الواو)، بإلى كقوله –جل وعلا- ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾[فصلت: 11] أي علا عليها جل في علاه –سبحانه وبحمده-، ويأتي معدى بعلى دال على العلو أيضًا كقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وأيضًا قوله –جل وعلا- ﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾[هود: 44] في قصة سفينة نوح عليه السلام، وتأتي معداة بالواو الدالة على المكافأة والاقتران فتقول: استوي الماء والخشب أي تكافأ وكان على حد واحد في القدر، والذي يثبت لله –عز وجل- من ذلك ما أخبر به في كتابه في قوله –جل وعلا-: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ وكما قال –سبحانه وتعالى- ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾[فصلت: 11].
هذه الصفة ثابتة لله –عز وجل- وهي صفة سمعية خبرية ثبتت للخبر، وهي صفة فعلية كانت بعد أن لم تكن فإن العرش خلقه الله –عز وجل- ثم استوي عليه وخصه بهذه الخاصية جل في علاه –سبحانه وبحمده-.
وقد ضل في معنى الاستواء طوائف، ومبدأ ذلك في قول الجعد بن درهم والجهم بن صفوان الذي أخذ عنه فضلَّ في هذه الصفة وانحرف عما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة وأنواع الضلال في ذلك ما سيأتي بيانه في كلام المؤلف –رحمه الله-.