قال - رحمه الله -: "واعلم أن أنفس الأعمال وأجلَّها قدرًا توحيد الله تعالى".
بعد أن فرغ من بيان توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية، قال: "واعلم أن أنفس الأعمال وأجلَّها قدرًا توحيد الله تعالى"؛ هو أجلُّ الأعمال وأعظمها عند الله عزَّ وجلَّ، فليس ثمة عمل أجلُّ، ولا أرفع مقامًا، ولا أجزل ثوابًا، ولا أعظم أجرًا من توحيد الله عزَّ وجلَّ، فبه ينال العبد سعادة الدنيا، وفوز الآخرة، وبه يكمل للعبد ما يكون سببًا لنجاته، وفوزه، وخروجه من المهلكات، ودخوله إلى فياح وأفنية السعادات.
يتحقق ذلك بكمال التوحيد لله في ربوبيته، وكمال التوحيد لله في إلهيته سبحانه وبحمده؛ ولهذا كان أنفس الأعمال.
ومما يدل على أنَّه أنفس الأعمال: أنَّ الله أمر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أول البعثة، بل بعثته ورسالته كانت لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:4]؛ وقوله: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾[المدثر:3]؛ أي: عَظِّمه، فلا يكون في قلبك أعظم منه، والتعظيم لا يكون إلَّا مع المحبة؛ تعظيم الله - عزَّ وجلَّ - لا يكون إلَّا مع محبته؛ لأنَّ التعظيم الخالي عن المحبة لا يوصل العبد إلى تمام العبودية لله - عزَّ وجلَّ -؛ قال الله - جلَّ وعلا - لرسوله بعد أن أمره بتوحيده في قوله: ﴿وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾[المدثر:3]قال: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ [المدثر:4]؛ أي من الشرك، وأدناسه، وأرجاسه.
ومما يدل على عظيم مقام التوحيد، وأنَّه أجلُّ الأعمال: أنَّه أول ما أمر الله - تعالى - به الناس في كتابه، فأول الأوامر في القرآن العظيم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:21]؛ هذه أول آية جاء فيها أمر صريح في القرآن العظيم، والخطاب فيها لكافة الناس ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:21].
وما من نبي بعثه الله - عزَّ وجلَّ - إلَّا وأمره بأن يدعو الناس إلى عبادة الله وحده كما قال - جلَّ في علاه -: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[البينة:5]، وكما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾[الأنبياء:25]، وكما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36].
فالتوحيد، ولا إله إلَّا الله؛ هي موضوع دعوة الرسل جميعًا من لدن نوح - عليه السلام - إلى خاتمهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وعلى سائر النبيين والمرسلين -.