قال - رحمه الله -: "والأدلة الدَّالة على أنه - تعالى - يجب أن يكون وحده هو المألوه تبطل هذا الشرك، وتدحض حجج أهله، وهي أكثر من أن يحيط بها إلَاّ الله - تعالى -، بل كل ما خلقه الله - تعالى - فهو آية شاهدة بتوحيده، وكذلك كل ما أمر به، فخلقه وأمره، وما فطر عليه عباده وركبه فيهم من العقول؛ شاهد بأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنَّ كل معبود سواه باطل، وأنه هو الله الحق المبين، تقدس وتعالى.
وواعجبًا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكةٍ ... وتسكينةٍ أبدًا شاهــــــــــــــــد
وفي كل شيءٍ له آيةٌ ... تدل على أنه واحـــــــــــــد".
هذا بيان أن وجوب إفراد الله – تعالى - بالعبادة قد أقام الله – تعالى - شواهده، وأدلته، وبعث رسله جميعًا من لدن نوح إلى خاتمهم سيد المرسلين - صلوات الله وسلامه عليهم – أجمعين، بعثهم يدعون إلى هذه الحقيقة، وقد أقام الله الشواهد والأدلة على وجوب إفراده بالعبادة؛ فالقرآن مليء بالأدلة وأنواعها التي تقرر أنَّه لا يجوز صرف العبادة لغير الله تعالى، وأنه لا يجوز التوجه في دعاء، ولا في ذبح، ولا في نذر، ولا في حلف، ولا في غير ذلك من العبادات الظاهرة والباطنة إلا لله وحده لا شريك له، وأن من سوى به غيره فقد وقع في الشرك.
يقول: "والأدلة الدَّالة على أنه - تعالى - يجب أن يكون وحده هو المألوه"؛ يعني المحبوب المعظم؛ هذا معنى المألوه "تبطل هذا الشرك"؛ أي: تبطل شرك المشركين به، "وتدحض حجج أهله"؛ أي: وتبطل ما استدل به أولئك على شركهم من قولهم: هؤلاء لهم جاه، ما نعبدهم لذواتهم، إنَّما نعبدهم لجاههم ولكرامتهم عند الله، وما إلى ذلك من الكلام الذي يزخرفون به باطلهم.
قال: "وهي أكثر"؛ أي: الأدلة الدالة على وجوب إفراد الله بالعبادة "أكثر من أن يحيط بها إلا الله تعالى"؛ وهذا من رحمة الله بعباده، أنَّ كلَّ ما كان العباد لهم فيه ضرورة كانت الحجج والبينات عليه أكثر؛ كل ما كانت الحاجة إليه أشد كانت أدلة صحته، وسلامته، وأدلة وجوب إقامته أكثر وأوسع؛ وهذا من رحمة الله بعباده؛ ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾[فصلت:53]؛ أن ما جاء به محمد من التوحيد، من القرآن، من دعوته لعبادة الله وحده أنَّ ذلك هو الحق الذي لا يجوز الانصراف عنه، ولا الحيد عنه.
والأدلة التي أشار إليها المؤلف - رحمه الله - في الجملة نوعان:
النوع الأول: أدلة خلقية كونية؛
ففي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
سبحانه وبحمده؛ هذا النوع الأول من الأدلة، وهو الذي جاء ذكره في القرآن في نظير قوله - تعالى -: ﴿أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾[الغاشية:17]﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾[الغاشية:18]﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾[الغاشية:19]﴿وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾[الغاشية:20]، وما إلى ذلك من الآيات التي لفت الله الأنظار إليها ليستدل بها على أنَّه لا إله غيره - سبحانه وبحمده -؛ هذا النوع الأول من الأدلة؛ الأدلة الخلقية الكونية.
النوع الثاني: الأدلة الشرعية؛ وهي ما أقامه الله - تعالى - في كتابه من الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وإبطال كل من توجه إلى سواه - سبحانه وبحمده -؛ وهذا مليء في القرآن؛ فالقرآن كله دائر على تقرير التوحيد وإقامة حججه، وبيان أدلته، ودحض كل من كذبه، أو خالفه، وبيان عاقبة المتقين الموحدين، ونهايات وسوء خواتيم المشركين الكافرين، فالقرآن دائر على هذا.
ولهذا يقول - رحمه الله - بعد أن ذكر ذلك: "بل كل ما خلقه الله تعالى"؛ هنا إشارة إلى النوع الأول من الأدلة؛ وهو الأدلة الخلقية، ولماذا ذكره أولًا؟ لأنه يدركه كل أحد، بدأ بالأدلة الخلقية؛ لأنَّها مدركة لكل أحد في السماء، وفي الأرض حتى من لا يبصر، يقول: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾[الذاريات:21]؛ فيعلم من نفسه ما يقيم به الحجة على أنَّ المدبر واحد، وأنَّ الخالق واحد، وأنَّه لا يستحق العبادة سواه - سبحانه وبحمده -؛ ولهذا قدمها ذكرًا مع كونها لا تكفي؛ لأنَّها لو كانت كافية في إقامة الهدى لما بعث الله المرسلين، لكن من رحمته أن أقامها، وعزز ذلك بالرسل الذين دلُّوا عليه، وعرَّفوا به - سبحانه وبحمده -.
يقول - رحمه الله -: "بل كل ما خلقه الله - تعالى - فهو آية شاهدة بتوحيده، وكذلك كل ما أمر به"؛ هذا الدليل الثاني، نحن ذكرنا أن الأدلة نوعان، النوع الأول: أدلة خلقية كونية، النوع الثاني: أدلة شرعية دينية، فيقول المؤلف - رحمه الله -: "بل كل ما خلقه الله - تعالى - فهو آية شاهدة بتوحيده"، أيُّ النوعين من الأدلة هذا؟ الكونية الخلقية؛ كلُّها دالة على وجوب إفراده بالعبادة.
ثمَّ قال: "وكذلك"؛ هذا النوع الثاني من الأدلة "كل ما أمر به"؛ فإنَّه دال على أنَّه الإله الحق، وما أمر به، وما جاء في كتابه، وما بينته رسله - صلوات الله وسلامه عليهم - من عبادة الله وحده، كما قال - تعالى -: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]؛ فكل ما أمر به دال على وجوب إفراده بالعبادة - سبحانه وبحمده -، فخلقه؛ الأدلة الكونية، وأمره؛ الأدلة الشرعية