قال - رحمه الله -: "فالشرك به في الأفعال، كالسجود لغيره سبحانه".
المؤلف - رحمه الله - بيَّن أن الشرك الذي جاءت الرسل بالتحذير منه، والنهي عنه يكون في الأفعال، ويكون في الأقوال، ويكون في الإرادات، والمقاصد، والقلوب.
وبدأ بذكر ما يكون من الشرك في الأفعال، ومثَّل له بجملة من الأمثال التي يتضح بها المقام، وبدأ ذلك بذكر السجود، فقال - رحمه الله -: "فالشرك به في الأفعال، كالسجود لغيره سبحانه"، فالشرك بالله - عزَّ وجلَّ - في الأفعال يكون بأن تصرف عبادة أمرك الله - تعالى - بها لغيره، ومن ذلك: السجود، فالسجود أمر الله - تعالى - به له، فقال - جلَّ وعلا -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الحج:77]؛ فإذا صرف الإنسان ركوعًا، أو سجودًا لغير الله عزَّ وجلَّ - كان ذلك موقعًا له في الشرك.
ومما ينبغي أن يُعلم أن السجود ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: سجود عبادة؛ وهذا لا يكون إلَّا لله - عزَّ وجلَّ -، وهو الذي أمر الله - تعالى - به أهل الإسلام في قوله - جلَّ في علاه -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الحج:77]؛ وهذا لا يجوز صرفه لغير الله، فمن سجد لغير الله تعبدًا كما لو سجد لقبر، أو سجد لصالح، أو سجد لصنم؛ فإنَّه يكون قد وقع في الشرك الذي نهت عنه الرسل؛ وبهذا يكون قد تورط في الشرك الذي لا يغفره الله - عزَّ وجل - وهو الشرك الأكبر الذي قال الله - تعالى - فيه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48].
القسم الثاني: سجود تحية وإكرام؛ وهذا النوع من السجود ليس عبادة، لكنه مما نهى الله - تعالى - عنه أهل الإسلام، وإن كان ذلك قد وقع في الأمم السابقة، كما قال الله - جلَّ وعلا - في خبر يوسف وإخوته: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾[يوسف:100]؛ فهذا كان في الأمم السابقة، وقد نهت عنه هذه الشريعة، فقال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كما في السنن وغيره: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عَظِيمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» أخرجه الإمام أحمد في المسند (19403)، والترمذي في السنن (1159)، وحسنه، وابن ماجة في السنن (1852)، وصححه ابن حبان (4162)، والحاكم (7325) لعظم حقه، فالنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أخبر عن سجود لو كان مأذونًا فيه في هذه الشريعة لأذن فيه، وأمر به المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقِّه، وهذا الحديث جاء من طرق عديدة في أفرادها مقال، لكن مجموع هذه الطرق يدل على ثبوته، وهو يدل على أن السجود في هذه الأمة لا يكون لأحد، فالسجود لا يكون إلَّا لله - عزَّ وجلَّ -.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد حيَّاه بعض أصحابه بالسجود له فنهاهم - صلى الله عليه وسلم -، وقال هذه المقالة: «لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عَظِيمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا»؛ فلا يجوز لأحد أن يسجد لأحد على أي وجه كان سواء كان ذلك تعبدًا، أو تحيةً، أو إكرامًا؛ فإنَّ سجود التحية والإكرام قد يفضي بالإنسان إلى سجود العبادة، وكله مما لا يجوز صرفه إلَّا لله - عزَّ وجلَّ -.