"فتوجب اعتمادًا عليه، وتفويضًا إليه، وثقةً به، فتصير نسبةُ العبد إليه تعالى كنسبة الطفل إلى أبويه فيما يَنُوبُهُ من رغبته ورهبته، فلو دهمه ما عسى أن يدهَمَهُ من الآفات لم يلتجئ إلى غيرهما، فإن كان العبد مع هذا الاعتماد من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق:2-3]، أي: كافيه".
قال - رحمه الله -: "فتوجب" هذه المعارف وهذه العلوم توجب عملًا.
إذًا التوكل حقيقته مركب من أمرين: علم، وعمل، علم القلب، وعمل القلب، علم القلب هو: العلم بكمال الرب الذي فوضت إليه الأمر، وأما العمل فهو ما ينتج عن ذلك من الاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه كما قال - جلَّ وعلا -: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[غافر:44].
فتصير حال العبد مع الله كما قال - رحمه الله -: "فتصير نسبة العبد إليه"، يعني: في شئونه، فيما يطلبه، فيما يخاف منه، فيما يرجوه، "كنسبة الطفل إلى أبويه".
الآن الطفل - وكلنا يعرف حال الطفل ويراه سواءً كان له طفل أو لغيره - إذا دهاه ما يخاف منه ماذا يصنع؟ إذا جاءه ما يخاف منه لا يعرف سببًا للنجاة إلا من قِبَلِ أبيه أو من قِبَلِ أمه، فتجده يفر إلى أبيه وأمه؛ لأنه يرى أن النجاة في لَجَئِهِ واستناده إلى أبيه وأمه، وإن كان المخوف أعظم قوةً من أبيه ومن أمه، لكنه لا يرى في قلبه أحدًا أقوى من أبيه، ولا من أمه، ولا أرأف من أبيه، ولا من أمه؛ لإنجائه.
نسبة العبد الذي حقق الاستعانة بالله استعانةً مطلقة وتوكل عليه توكلًا تامًّا كنسبة هذا الطفل إلى أبويه.
فإذا أردت أن تعرف درجتك في التوكل، انظر إلى حالك إذا أصابتك نازلة، إلى أين تفر؟ هل تفزع إلى ربك؟ هل تلجأ إليه؟ هل تفر إليه، أم أنك تلتفت يمنةً ويسرةً إلى الخلق تطلب منهم نجاةً؟
لا شك أن فرار القلب لا يكون إلا لله، وهذا لا يعني أن يُعَطِّل الإنسان الأسباب؛ فإنَّ الإنسان مأمورٌ بأخذ السبب، لكن الشأن كل الشأن في أن يكون القلب مفوِّضًا الأمر إليه فارًّا إليه كنسبة فرار الطفل عندما يصيبه ما يكره إلى أبويه.
يقول - رحمه الله -: "كنسبة الطفل إلى أبويه فيما ينوبُهُ من رغبته" - إذا أراد شيئًا - "ورهبته" أي: إذا خاف شيئًا، "فلو دهمه ما عسى أن يدهَمَهُ"، مما يخاف من الآفات أو يرغب به من المطلوبات، "لم يلتجئ إلى غيرهما" إلى غير أبيه وأمه.
فاستعانتك بالله هي: أن لا يكون في قلبك اعتقادٌ أنَّ شيئًا يمكن أن يبلِّغك مطلوبك سوى الله - جلَّ في علاه -، «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يكتبه الله لك ما نفعوك، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يكتبه اللَّهُ عَلَيْكَ ما ضروك، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» أخرجه بنحوه الإمام أحمد في المسند (2669)، والترمذي في السنن (2516)، وقال: حسن صحيح. أي: قُضِيَ الأمر، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
ثم بعد ذلك انتقل - رحمه الله - إلى ذكر القسم الرابع من أقسام الناس في العبادة والاستعانة، وهم: من يستعينون بالله وتعالى ولا يحققون له العبادة.
الأقسام التي تقدم ذكرها ثلاثة:
القسم الأول: الذين كمَّلوا العبادة والاستعانة، ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5].
القسم الثاني: الذين ليس عندهم لا عبادة ولا استعانة - الضد -.
القسم الثالث: من عنده عبادة وليس عنده استعانة.
القسم الرابع: من عنده استعانة ولا عبادة معه، هذا ما سيتحدث عنه الآن في هذا المقطع: