"القسم الرابع: من له استعانةٌ بلا عبادة، وتلك حالة من شهد تفرُّد الله بالضر والنفع، ولم يدرِ بما يحبه ويرضاه، فتوكَّل عليه في حظوظه فأسعفه بها، وهذا لا عاقبة له سواءٌ كانت أموالًا أو رياساتٍ أو جاهًا عند الخلق أو نحو ذلك، فذلك حظه من دنياه وآخرته".
هذا هو القسم الرابع، وهو: من حقق الاستعانة في طلب ما يؤمِّل وفي الأمن مما يرهب، لكن ليس له عبادة، ليس له طاعة، سِوى أنه يطلب من الله العون في تحقيق مرغوباته، ومشتهياته، ومحبوباته، وهذا نوع من الاستعانة، وقد ذكرنا في درسنا السابق أن الاستعانة بالله - عزَّ وجلَّ - تكون على أمور:
تكون في تحقيق طاعة الله - عزَّ وجلَّ -، وهذا من أعلى ما يكون من أوجه الاستعانة؛ أن تطلب الله عونه في أن تكون عبدًا له، هذا أعلى مراتب الاستعانة، أن تستعين به على طاعته، وهذه المنزلة هي التي أشار إليها الصحابة عندما قالوا: «وَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلاَ تصدقنا وَلاَ صَلَّيْنَا» أخرجه البخاري (4104)، ومسلم (1802) فلولا عون الله لنا ما كانت منا صلاة، وما كانت منا هداية، ولا كان منا طاعة، بل الكُل بالله، فلا حول ولا قوة إلا بالله. هذا أعلى مراتب الاستعانة.
المرتبة الثانية من مراتب الاستعانة: الاستعانة بالله على مصالح الدنيا، وهذه مأمورٌ بها، ولكن ما يتعلق بعاقبتها يعتمد على نية الإنسان؛ فمن استعمل هذه المصالح فيما يرضيه - جلَّ في علاه - كانت استعانةً راشدةً وعملًا صالحًا، ومن استعان بها على معصيته أَثِم بصرف ما أعانه الله تعالى من الإعانة في غير وجهها الذي يُشْكَر بها -جلَّ وعلا -.
وأما القسم الثالث من أقسام الاستعانة: فالاستعانة به على معصيته، وهذا من أسوء صورها، ومن أردى عواقبها؛ لأن عاقبتها هلاكٌ وبوار.
وهذا النوع من الناس وهو من حقق الاستعانة بالله في مصالح نفسه ولم يحقق العبودية لله - عزَّ وجلَّ - يقول: "لا عاقبة له" يعني: ليس له نتيجة تُحْمَد، بل كل ما يُحَصِّله بتلك الاستعانة في مصالح الدنيا يذهب ويضمحل، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[الرحمن:26-27]، فكل ما عليها، وكل ما لها، وكل ما قُصِدَت به فإنه يذهب، كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ﴾[الأنعام:94]، أي: ما مكناكم به من مال، من ولد، من جاه، من منصب، من عشيرة، ﴿وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ﴾[الأنعام:94]، فليس ثمَّة شيءٌ يقدم مع الإنسان يوم القيامة إلا عمله، فإن كان صالحًا أفلح، وإن كان غير ذلك هلك.