"من لا إخلاص له ولا متابعة له، وهؤلاء شرار الخلق، وهم المتزيِّنون بأعمال الخير يُراءون بها الناس، وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيم من المنتسبين إلى الفقه والعلم والفقر والعبادة، فإنهم يرتكبون البِدَع والضلال والرياء والسُمْعة، ويُحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
هذا هو القسم الثاني من أقسام الناس في الإخلاص والمتابعة: وهم الذين لا إخلاص لهم، فليسوا من أهل الإخلاص، يعملون صالحًا من غير إخلاص، وليس عندهم متابعة للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، ومع هذا يطلبون من الناس حمدًا وثناءً.
يقول - رحمه الله -: "هؤلاء شِرار الخلق" يعني: أعظم الخلق شرًّا، لماذا كانوا شِرار الخلق؟ لأنهم لم يحققوا الغاية من الوجود؛ غاية الخلق عبادة الله، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، وكل من خرج عن هذه الغاية كان من شرار الخلق، وهم الذين لا إخلاص لهم ولا متابعة، وهي حال أهل الشرك وأهل الإلحاد الذين لا دين لهم، وهم الذين تقوم عليهم الساعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْق» أخرجه مسلم (1924) لأنه لا إخلاص ولا متابعة، لا دين لهم بإخلاص العمل لله ولا باقتفاء آثار الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
وهم مع تركهم الإخلاص والمتابعة - كما قال -: "وهم المتزيِّنون بأعمال الخير" هذا صِنْف منهم، من هؤلاء من يتزين بأعمال الخير يتظاهر بأعمال الخير، "ويراءون بها الناس".
ثم يقول: "وهذا الضرب" هذا النوع من الناس، هذا الصِنف من الناس، "يكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيم" أي: خرج عن الطريق القويم الذي جاء به سيد المرسلين - صلوات الله وسلامه عليه -.
يقول: "وهذا الضرب يَكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيممن المنتسبين إلى الفقه والعلم" يعني: المشتغلين بالعلوم الشرعية تعلُّمًا وتحصيلًا، أو بذلًا وإرشادًا، "والفقر والعبادة" أي: أهل التعبد، يعني: من عنده علم بلا عمل، أو عنده عبادة بلا علم، يكثر فيهم هذا الذي ذكره - رحمه الله - من أنهم يطلبون من الناس مدحًا وثناءً على ما يكون من أعمالهم، إما من علمٍ يبذلونه، أو من عبادةٍ يتظاهرون بها، ولو كانت هذه العلوم علومًا مُنحرفة لا تهدي إلى الصراط المستقيم، ولو كانت هذه العبادات مبتدعة ليس فيها من هدي سيد المرسلين - صلوات الله وسلامه عليه - شيء، يطلبون من الناس أن يمدحوهم؛ ولذلك يقول: "فإنهم يرتكبون البِدَع، والضلال، والرياء، والسمعة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا".
فيقال: هذا عابد، هذا عالم، هذا ولي، هذا تقي، هذا نقي، هذا صالح، هذا له أحوال، هذا له كرامات، وهلم جرا مما يرغبون أن يوصفوا به وهم عنه عارون ليس معهم منه شيء.
هؤلاء يقول: "وفي أضراب هؤلاء" - يعني في أمثال هؤلاء -، "نزل قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ [آل عمران:188]" جمعوا سيئتين: السيئة الأولى: أنهم يأتون شرًّا، والثانية أنهم يطلبون مدح الناس عليه، ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا﴾[آل عمران:188]، أي: بما فعلوا من الفساد والشر، وإظهار الضلال، ودعوة الخلق إلى الباطل، وغير ذلك، فأظهروا شرًّا وعمِلوه، ثم مع هذا يحبون أن يمدحهم الناس بما ليس فيهم من الخصال، وهؤلاء لا يزيدهم الله إلا ذُلًّا؛ فقد جاء فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث الثابت بن الضحَّاك - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً» سواءً قولية أو عملية، بأن يتزين بزي أهل العبادة والطاعة، أو بزي أهل العلم، أو يتظاهر بأي نوع من أنواع ما يُحْمَد عليه وليس فيه ذلك الوصف، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنِ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللّهُ إِلاَّ قِلَّةً» أخرجه مسلم (110) يعني: أتاه نقيض مقصوده.
وفي حديث أسماء بنت أبي بكر في الصحيحين قال - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ» يعني: المتزين بما ليس فيه، سواءً كان ذلك في مال، أو في علم، أو في عبادة، أو في أي شيء مما يُمْدَح به الناس، «المُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2130) سرعان ما يكشفه الله ويفضحه، مثل الذي يلبس لباسًا لا يستره سينكشف وتتبين حقيقته، فينبغي لكل من رَغِب النجاة أن يُبْعِد عن هذا الوصف الذي ذكره الله تعالى: ﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ﴾[آل عمران:188]، أي: بنجاة، ﴿مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[آل عمران:188]، هؤلاء توعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم وأنه سيحيق بهم ما يكون رادِعًا لكل من سار هذا المسار وسلك هذا السبيل.
هذا هو النوع الثاني من أنواع الناس، وهم: الذين لا إخلاص لهم، ولا متابعة عندهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -.