"الضرب الثالث: من هو مخلصٌ في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر، كجُهَّال العُبَّاد والمنتسبين إلى الزهد والفقر، وكل من عَبَد الله على غير مراده، والشأن ليس في عبادة الله فقط، بل في عبادة الله كما أراد الله. ومنهم من يمكث في خلواته تاركًا للجمعة، ويرى ذلك قُرْبَةً، ويرى مواصلة صوم النهار بالليل قُرْبَة، وأنَّ صيام يوم الفطر قُرْبَة، وأمثال ذلك".
هذا هو الضرب الثالث، النوع الثالث من أنواع الناس، هم الذين لهم رغبة في العبادة والإخلاص، لكن ليس عندهم علم ومعرفة بالطريق الموصل إليها، مِثل شخص يريد أن يذهب إلى مكة؛ قلبه متشوِّف إلى أن يصل إليها، لكن ما يعرف الطريق؛ يذهب شمالًا يصل إلى القدس، يذهب غربًا يصل إلى البحر، يذهب شرقًا يصل إلى نجد، ما يدري، فعنده رغبة في تحقيق العبادة، لكن ليس عنده معرفة بالطريق الموصل إلى الله - جلَّ وعلا -.
والرسل جاءت بأمرين: جاءت مُعرِّفة بالله، وجاءت مبيِّنة بالطريق الموصل إليه؛ ولذلك لابد لكل من أراد النجاة في تحقيق متابعة المرسلين أن يَكمل علمه بالله فيُخلص له، ويكمل علمه بما جاءت به الرسل من الطريق الموصل إلى الله - عزَّ وجلَّ -.
لذلك هؤلاء يقعون في طوام، ولجهلهم وعدم علمهم ومعرفتهم؛ ذكر – رحمه الله – جملة من آفاتهم، وما يقعون فيه من الضلال، فمنهم: من يترك الجمعات بناءً على الاعتزال عن الناس، والزهد في مخالطتهم، والخلوة بالله – عزَّ وجلَّ -، فيترك الجمعات ويترك الجماعات؛ تعبدًا لله – عزَّ وجلَّ – بذلك، وهؤلاء متوعَّدون بما تهددهم به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من على منبره، كما في الصحيح قال –صلى الله عليه وسلم-: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ«، عن تركهم الجُمَع، «أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» أخرجه مسلم (865) .
وهذا وعيد على ترك الجُمُعَات، كيف جعلوا ترك العبادة قربةً؟! وهذا لا يكون إلا لضلالهم وعمى بصيرتهم، حيث تقربوا إلى الله بترك العبادات، ولا تظن أن هذا شيء انتهى، هذا موجود، وأخبرني من وصل إلى قومٍ في رؤوس الجبال لا يُصَلُّون ولا يصومون ولا يفعلون شيئًا من الطاعات والعبادات، يقولون: نحن قد وصلنا منزلة سقط عنا التكليف، هذا نقرأه في الكتب ما نشاهده في حياة الناس كثيرًا، لكنه موجود؛ من يدَّعي مثل هذه الدعاوى التي قصده وغرضه بها أن يبرر ما هو عليه من ضلال، وما هو عليه من فساد، وهذا في طرائق الانحراف واضحة وجلية ومعروفة.
ومن الناس من يرى مواصلة الصوم – صوم الليل بالنهار – قُرْبَة، وهذا لاشك أنه خارجٌ عن هدي النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) .
وبيَّن – صلى الله عليه وسلم – خطر هذا المسلك وشؤم عاقبته؛ فإنه من سار على هذا السبيل خرج عن الصراط المستقيم إلى أنواعٍ من الغلو والانحراف والتشديد الذي يوقعه في الضلالات، كما سيأتي بيانه – إن شاء الله تعالى -.
إذًا هذا القسم الثالث: مَن عنده إخلاص، لكن ليس عنده علم، هذا لا يصل إلى مطلوب، فإن كان تركه للعلم عن عُذْر فإن الله تعالى لا يظلم الناس شيئًا، وإن كان تركه للعلم عن تقصير فإن الله تعالى لا يَقبل عمله.
هناك أناس لهم رغبة في الخير والإخلاص، لكن ما يَصِلُّون؛ لأنه ما عندهم علم، هؤلاء أمرهم إلى الله؛ لأنهم عجزوا وبذلوا ما يستطيعون للوصول إلى الله، لكنهم لم يعرفوا هذا في زمن الجهل وفي البلدان التي ليس فيها علم ولا بصيرة، ولا يتمكن الإنسان من الوصول إلى المعرفة.
لكن هناك من يَسْتَعْذِب الجهل، من يُحِب الطريق الذي اشتهاه وأَلِفَه وسار عليه وترك الأنوار التي جاء بها سيد الأنام – صلوات الله وسلامه عليه – فهذا يقال له: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» تقدم تخريجه لا يُقْبَل العمل إلا إذا كان لله خالصًا وللنبي – صلى الله عليه وسلم – متابعًا وعلى سُنَّتِه جاريًا.