"واعلم أنَّ الناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرقٌ أربعة، وهم في تلك أربعة أصناف:
الصِنْف الأول: نفاةُ الحِكَم والتعليل الذين يَرُّدون الأمر إلى محض المشيئة وصِرْف الإرادة، فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن تكون سببًا لسعادةٍ في معاشٍ ولا معاد ولا سببًا لنجاة، وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة، كما قالوا في الخلق: لم يُخْلَق لغايةٍ ولا لعلةٍ هي المقصودة به، ولا لحكمةٍتعود إليه منه، وليس في المخلوقات أسبابٌ تكون مقتضياتٍ لمُسبباتها، وليس في النار سببٌ للإحراق، ولا في الماء قوةُ الإغراق ولا التبريد، وهكذا الأمر عندهمسواء، لا فَرْق بين الخلق والأمر، ولا فَرْق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا، من غير أن يقوم بالمأمور صفةٌ تقتضي حُسْنَه، ولا بالمنهي عنه صفةٌ تقتضي قُبْحَه.
ولهذا الأصل لوازم وفروعٌ كثيرة، وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوة العبادة ولا لذَّتها ولا يتنعَّمون بها؛ ولهذا يُسَّمون الصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد والإخلاص ونحو ذلك تكاليف، أي: كُلِّفوا بها، ولو سَمَّى مُدَّعِي محبة ملكٍ من الملوك أو غيره ما يأمره به تكليفًا لم يُعَدَّ مُحِبًّا له، وأول من صدرت عنه هذه المقالة: الجعد بن درهم".
يقول - رحمه الله -: "واعلم أن للناس في منفعة العبادة وحِكمتها ومقصودها طرقًا أربعة، وهم في ذلك أربعة أصناف".
كل ما شرعه الله - عزَّ وجلَّ - وكل ما قضى به - سبحانه وبحمده - فإن لله فيه حِكمةً، هذه قضية لابد أن تكون مقررةً في بدء الحديث عن هذه الأقسام، فإنه مما دلَّ عليه كتاب الله - عزَّ وجلَّ -، ودلَّت عليه شرائع المرسلين، وما جاء به خاتم النبيين -صلوات اللهوسلامه عليه -، أنه ما من شيء يشرعه الله تعالى إلا وله فيه حِكمة؛ ذلك أنَّ الله - سبحانه وبحمده - من صفاته أنه الحكيم - جلَّ في علاه -، وقد أخبر - سبحانه وبحمده - في مواضع كثيرة في كتابه الحكيم عن حِكَمِ الأحكام، وأسرار الشرائع، وعِلَل الأمر والنهي، وهذا كافٍ في تقرير أنه ما من شيءٍ شرعه الله إلا وله فيه حِكمة - سبحانه وبحمده -.
وقد قرر ذلك في تنزيل الكتاب الذي هو أصل الهدى، وهو معدن التقى، وهو منبع كل خيرٍ وبرٍ وصلاح، قال الله - جلَّ وعلا -: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود:1].
يُخْبِر الله - عزَّ وجلَّ - أنَّ هذا الكتاب قد أُحْكِمَت آياته، أي: أُتْقِنَت، وإتقان القرآن وإِحكامه على نحوين:
النحو الأول: إِحْكام ألفاظه، فليس فيها تنافر، ولا فيها تضاد، ولا فيها ما ينبو عن الأسماع، بل هو متقنٌ في غاية الإتقان، ومن أحسن من الله قيلًا.
النحو الثاني: أنه محكمٌ في معانيه، وهذا الإِحكام لا يقف عليه إلا أصحاب الألباب والبصائر الذين تنفُذ بصائرهم إلى ما وراء الألفاظ من المعاني والمضامين، هؤلاء يُدركون أنَّ القرآن في غاية الإحكام، كما قال - جلَّ في علاه -: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾[النساء:82]، لكنه مِن الله، فلما كان مِن الله سَلِم من كل اختلاف.
وقد قال الله - جلَّ وعلا - في كتابه: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾[الزمر:1].
فهو الممتنع عن كل نقصٍ وعيب، وهذا ما دلَّ عليه وصفه بالعزيز - سبحانه وبحمده -، وهو الحكيم في كل ما ضمَّنَه كتابه - جلَّ في علاه - من الأحكام، والأخبار، وسائر ما تضمنه هذا الكتاب مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه مُحْكَم، ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ﴾[النمل:6] ماذا؟ ﴿حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾[النمل:6]؛ مُحْكِم يستحق الحمد؛ لإحكامه وجليل صفاته - جلَّ في علاه، سبحانه وبحمده.
فما من شيءٍ في الشرائع إلا ولله فيه حِكمة، وهذا ما يتعلق بالأمر، فإن الشرع هو أمر الله - عزَّ وجلَّ -، ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾[الأعراف:54]، ﴿الْخَلْقُ﴾ [الأعراف:54] حكمه الكوني، ﴿وَالأَمْرُ﴾[الأعراف:54]، حكمه الشرعي.
ونحن الآن نتحدث عن حكمه الشرعي الذي في كتبه - جلَّ في علاه - وجاءت به رسله - صلوات الله وسلامه عليهم -، كله مُحْكَمٌ متقن، ليس فيه خللٌ ولا عيب، ثم إن هذا الإحكام في ظهوره على أنحاء:
منه ما جاء بيان الحِكمة منه في قول الرب - جلَّ في علاه -، فبيَّن الله الحِكمة والغاية من الحُكم؛ قال الله - جلَّ وعلا -: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[البقرة:219]، ﴿إِثْمٌ﴾[البقرة:219]، يعني: مفاسد، ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾[البقرة:219]، يعني: مصالح، ﴿وَإِثْمُهُمَا﴾[البقرة:219]، أي: فسادهما، ﴿أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾[البقرة:219]؛ فدلَّ ذلك على: أنه مما يُنَفَّر عنه، ومما تتنزَّه الشريعة عن الإذن به للعباد؛ لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبإعدام المفاسد، وتقليلها إذا لم يمكن الإعدام، فلما كان كذلك فلا يمكن أن يُقَرَّ الخمر في شريعةٍ بناؤها على جلب المصالح ودفع المفاسد؛ ولهذا جاء النص على حِكْمَة التحريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾[المائدة:90-91].
إذًا ليس ثمَّة حكمٌ شرعي إلا ولله فيه حِكمة، منه ما يبيِّنُه الله ويَنُصُّ عليه، فيأتي بيان الحكمة جليًّا ظاهرًا فيدركه العباد؛ فتطمئن نفوسهم، وتنشرح صدورهم للعمل بالأحكام؛ لظهور الحِكم، والأسرار، والغايات، والعلل، ولا شك أن عمل المكلَّف مع علمه بالحِكمة أشرح لصدره، وأسكن لقلبه؛ ذاك أن العلم وإدراك الحِكَم مما يُنَشِّط النفوس على الامتثال ويقويها على العمل؛ فلذلك نص الله تعالى على الحِكَم في جملة من الأحكام.
وهناك من الشرائع ما لم يأتِ له ذكر حكمةٍ معينةٍ؛ فقد أمر الله تعالى في كتابه بأوامر، وجاء رسوله - صلى الله عليه وسلم – بأوامر، ونهى الله تعالى في كتابه، ونهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء، لكن لم يذكر لذلك علة، وهذا له جانبان:
الجانب الأول: إما: لأن العلة ظاهرة كتحريم السرقة مثلًا؛ ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة:38]، لم يذكر الله لماذا فرض هذا الحكم؛ لظهوره وجلائه؛ إذ إن في السرقة فساد أموال الناس، فقطع هذا الفاسد بقطع يد السارق، يُدْرِك ذلك أهل البصائر، والمعرفة، والنظر في الحِكم والأسرار، ومآلات الأحكام التي سعت الشريعة لتقريرها، وهذا دور أهل العلم الذين يستنبطون العلل والأسرار والحِكم والغايات من الأحكام.
الجانب الثاني: هناك من الأحكام ما لا يظهر له علة، لم يظهر له علة عند البشر، هل هذا يعني أنه خالٍ من حِكمة؟
الجواب: لا، ليس ثمَّة حكمٌ شرعي إلا وفيه حِكمة، هذه الحِكمة قد تظهر وقد لا تظهر، عدم ظهور الحكمة لا يعني عدم وجودها؛ إذ إن عدم ظهور الشيء لا يلزم عدم وجوده. الآن لو نظر أحدنا إلى جَيْب صاحبه ولم ير شيئًا، هل يعني هذا أن محفظته أو جَيْبَه خالٍ من كل شيء؟ الجواب: لا، كونه لا يرى لا يلزم عدم الوجود، وهذا له أمثلة كثيرة، هذا مثال تقريبي.
الآن نحن لا نرى النجوم بحُكْمِ أننا في مكانٍ مسقوف، هل هذا يعني أنه لا نجوم في السماء؛ لأننا لا نراها؟
عدم ظهور الشيء لا يلزم منه عدم وجوده، قد يوجد لكن يحول دون إدراكه حائل؛ فلا تدركه الحواس أو لا يدركه العقل؛ لوجودٍ مانع من الإدراك، كذلك الحِكَم، في كل شرائع الدين وأحكامه أمرًا ونهيًا لابد من وجود حِكمة، قد نُدْرِك هذه الحكمة، إما بنص الله عليها في كتابه أو رسوله في سنته، وإما باستنباط أهل البصائر والعلم الذين يُدركون أسرار الشرائع وحِكَم الأحكام، وإما أن لا نستطيع إدراك ذلك؛ لعجز عقولنا عن إدراك الحِكْمة؛ ذلك لا يعني ألا يكون ثمَّة حكمة.
أضرب لذلك مثلًا: الصلوات تتفاوت ركعاتها، فالفجر ركعتان، والظهر أربع ركعات، والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع، هذا التفاوت في العدد ألَهُ حِكمة أو ليس له حكمة؟ بلى له حِكْمة، هذه الحكمة ما هي؟ هل جاء النص عليها في كلام الله أو كلام رسوله؟ الجواب: لا، ليس ثمَّة نص على تفاوت العدد، هناك حكمة للصلاة قال: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[العنكبوت:45]، هذه غاية الصلاة ومقصودها، لكن هذا التفاوت في العدد أَلَهُ حكمة؟
يؤمن البصير بأن الله لم يشرع ذلك عبثًا، وأن ثمَّة حكمة لهذا التفاوت في أعداد ركعات الفرائض، لكن هذا لا يلزم أن يكون الإنسان عالمًا به، بل إن من مظاهر تحقيق العبودية لله أن تمتثل أمر الله وأنت لا تعلم لماذا أمرك الله بذلك؛ لأن هذا يُظْهِر معدن العبودية الحقيقي؛ لأن من امتثل مع عدم عِلمه بحِكمة الحُكم وسبب التشريع كان ذلك من تمام إيمانه وكمال استسلامه لربه - جلَّ في علاه - الذي أذعن له في الحُكم وانقاد له في الأمر دون أن يدرك الغاية والحكمة والسِر فيما شَرَع، فليس ثمَّة حكمٌ شرعي أمرًا أو نهيًا إلا ولله فيه حِكْمة، كما دلَّ على ذلك كتاب الله، ودلَّ عليه سنة رسوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
والواجب على المؤمن: أنْ يقابِل الأحكام بالقبول، ولا ينتظر معرفة الأسرار والحِكم للقبول، إذا كان لا يعمل إلا بما أدركه عقله من حِكمة العمل فهو لا يعبد الله، إنما يعبد عقله، وهذا عمل أولئك الذين يقولون: "ما جاءنا من النصوص نَعْرِضُه على عقولنا، فما قَبِلَتْهُ قَبِلْنَاه، وما رَدَّتْهُ رَدَدْنَاه"، هؤلاء يُقال لهم: "بِأَيِّ عَقْلٍ يُوزَنُ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؟!"، كما قال جماعة من أهل العلم: "لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ عَقْلٍ يُوزَنُ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؟!".
الكتاب والسنة يحكمان على العقول ولا تحكم عليهما العقول؛ لأنهما من الحكيم الخبير الذي أتقن كل شيء - جلَّ في علاه -، ومن إتقانه إتقانُه لشرعه - سبحانه وبحمده -.
هذا فيما يتصل بحُكم الله الشرعي، الديني، الأمري.
أما ما يتصل بحكمه القدري الكوني الذي يشمل كل حوادث الكون مما يحبه الإنسان وما يكرهه، مما يتعلق به ومما يتعلق بغيره، كلُ ما قضاه الله كونًا فله فيه حِكمة، ليس ثمَّة شيءٌ في الكون عارٍ عن حِكمة، قد تُدْرك هذه الحكمة لفعل الله، وخلقه، وحُكمه، وقد لا تُدْرِك، لكن ما من شيء إلا ولله فيه حِكمة.
دليل ذلك قوله - جلَّ وعلا -: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾[الإنسان:30]، ثم بعد أن ذكر مشيئته قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ﴾[الإنسان:30]، ماذا؟ ﴿عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[الإنسان:30]؛ فكل ما في الكون بعلمه، وكل ما في الكون صادرٌ عن حكمته، وهذا السر في أنَّ الله ذكر هذين الاسمين الجليلين بعد ذِكر مشيئته؛ للدلالة على أنَّ ما شاءه - جلَّ وعلا - فهو بعِلْمه، وما شاءه فهو صادرٌ عن حِكمته ورحمته - جلَّ في علاه -، سبحانه وبحمده.
وبهذا تبيَّن أنه يطمئن المؤمن في عبادته وفي حكم الله في الكون أنه ما من شيءٍ إلا ولله فيه حِكمة، ويُسَلِّم لله وينقاد لحكمه - جلَّ في علاه -، الشرعي، وكذلك يرضى وينشرح صدرًا بحكمه الكوني، ويتعامل معه بالشرع؛ لأن الحكم الكوني لا يلزم القبول به، لكن يجب الرضا به، الرضا بمعنى: أنك تعلم أن الله لم يشرع ذلك ولم يقضه إلا وله فيه حِكمة، لكن تدفع القدر المكروه بالقدر المحبوب، فتدفع قدر المرض بقدر طلب الشفاء، تدفع قدر العدو بأخذ العُدَّة التي تقيك شره وتدفع عنك ضره، كما قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[الأنفال:60].
بعد هذه المُقدِّمة المبيِّنة لما يتصل بحِكم وعلل ما يكون من حُكم الله الكوني وما يكون من حكمه الشرعي - سبحانه وبحمده - ذكر المؤلف طرائق الناس وأقسامهم فيما يتعلق بالنظر في هذه القضية؛ وهي الحكمة من فعل الله - عزَّ وجلَّ -، الحكمة من شرع الله - عزَّ وجلَّ -، ذكر في ذلك أربعة طرقٍ، وأربعة أصناف:
الصنف الأول: هم نُفَاة الحِكَم والعلل والأسباب، وهؤلاء هم الجبرية الذين يقولون: "إن الله لا يفعل لحِكمة، فما من شيءٍ في فعل الله - عزَّ وجلَّ - لحكمة، إنما يفعل الله تعالى كل شيء ويقضي شرعًا كل شيء عن مجرد المشيئة المحضة الصِرفة التي عَرَت وخَلَت عن حكمة"، فهم لا يصفون الله بالحكيم - سبحانه وبحمده -، ولا يصفون الله - جلَّ وعلا - بالمُتْقِن لشرعه وحُكْمه - سبحانه وبحمده -، بل يقولون: ما من شيءٍ إلا لمجرد المشيئة.
ولما ضلَّ هؤلاء؛ فسد عقدهم، لما كان منطلقهم نفي الحكمة؛ فسدت جملة من عقائدهم، وفسدت جملة من أعمالهم.
يقول المؤلف - رحمه الله - في هؤلاء: "الصنف الأول: نفاةُ الحِكَم" جمع: حكمة، "والتعليل" أي: الذين ينفون أن يكون لفعل الله أو لحُكْمِه الشرعي، أو الديني، أو القدري الكوني، ينفون أن يكون لذلك علة، "الذين يَرُّدون الأمر"، يعني: ما يصدر عن الله "إلى نفس المشيئة" محض المشيئة المجرَّدة، "وصِرْف الإرادة" وأنَّ الله أراده لا لحكمة، ولا لغرض، ولا لسر، ولا لمقصود، إنما قضى به مجردًا عن كل هذه المعاني.
يقول - رحمه الله -: "فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر" يعني: امتثال الشرائع فقط لأن الله أمرنا، ليس لأجل أن نُدْرِك بذلك سعادة الدنيا وفوز الآخرة، إنما نمتثل الأمر لمجرد الأمر؛ لأن الله أمرنا، وليس أن هذه المأمورات تقتضي السعادة في الدنيا، تقتضي الحياة الطيبة في الدنيا، تقتضي الفوز في الآخرة، تقتضي النجاة يوم القيامة، ليس لها علاقة بهذه الأمور، بل هي محض أفعالٍ لا معنى لها بالكلية.
ثم يقول - رحمه الله -: "وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة، كما قالوا في الخلق" يعني: لما فسد نظرهم في الشرائع وقالوا: إن الشرع لا لحكمة، كذلك انتقل فساد رأيهم في حكم الله الكوني، فقالوا: إن أحكام الله الكونية ليس لها غاية، وليس لها علة، والمقصود منها الإيجاد، فهي محض مراد الله تعالى، ليس في ذلك سرٌّ ولا غاية؛ ولهذا يعطِّلون الأسباب عن نتائجها، ويقولون: النتائج لا علاقة لها بالأسباب، وهذا من فساد اعتقادهم؛ ولذلك يقول - رحمه الله -: "وليس في المخلوقات أسبابٌ تكون مقتضيةٍ لمسبباتها، وليس في النار سببٌ للإحراق، ولا في الماء قوة الإغراق" وما إلى ذلك من ضلال الاعتقاد الناشئ عن إلغاء الحكمة والتعليل والسبب في أفعال الله - جلَّ وعلا - وإرجاع الأمر إلى مجرد المشيئة؛ لهذا بعد أن عرض فسادهم في الاعتقاد فيما يتعلق بحُكم الله الكوني وفيما يتعلق بحكم الله الشرعي، قال: "ولهذا الأصل لوازم وفروعٌ كثيرة، وهؤلاء غالبهم لا يجدون حلاوةً العبادة"؛ لأنه يتعبَّد لمجرد الأمر، ليس لأنه يُدْرِك بهذا فوز الدنيا وفوز الآخرة، إنما لمجرد أن الله أمر، وقد يعمل ما أمره الله ولا يدرك بذلك شيئًا من النعيم في الدنيا، ولا شيئًا من الفوز في الآخرة؛ إذ هي مجرد تكاليف.
قال - رحمه الله -: "وأول من صدرت عنه هذه المقالة: الجعد بن درهم".
وهو من مصادر السوء والشر في الأقوال والاعتقاد عبر تاريخ الأمة؛ فإنه صدر عنه جملة من الانحرافات، ومن أعظمها: فساد اعتقاده في صفات الله - عزَّ وجلَّ - وأسمائه، وفساد اعتقاده في أفعاله وقدره - جلَّ في علاه -، ومن ذلك نفيه للعلة والحكمة والسبب في أفعال الله - جلَّ وعلا - وأقضيته وأقداره - سبحانه وبحمده -.