الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملءَ السماء والأرض، وملءَ ما شاء من شيءٍ بَعْد، له الحمد في الأُولى والآخرةِ، وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن لا إله إلا الله يُخرج الحيَّ من الميت، ويخرج الميِّتَ من الحي، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتَّبع سنته، واقتفى أثرَه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاسأل اللهَ العظيم ربَّ العرشِ الكريم أن يرزقني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، ولا ريب أن أشرف العلوم وأجلَّها ما قرَّب إلى الله -عزَّ وجل-، ودلَّ عليه، وأصلُ ذلك العلم بالله -جلَّ في عُلاه- فالعلم به - سبحانه وبحمده- هو أصل العلوم وهو أُسّها الذي إذا استقام للعبد كان ذلك موجبًا لقبول الرب، ومؤذنًا بمزيد العطاء والفضل من ربٍ يُعطي على القليل الكثيرَ.
ولما كان العلم بالله -عزَّ وجلَّ- أشرفَ العلوم فإن الرُسل -صلوات الله وسلامه عليهم- جاءوا جميعًا متفقين على دعوة الخلق إلى معرفة ربهم -جلَّ في عُلاه-؛ لما في معرفة الله -عزَّ وجلَّ- من صلاح القلوب واستقامتها، وطيب الأفئدة وإخباتِها وإنابتها إلى ربها -جلَّ في عُلاه- فإن العلم بالله- عزَّ وجل- يُثمر ثمارًا جليلة، ويُعقب العبدَ فوائد عظيمة من أجلِّها وأعظمها: أن يكون قلبه صالحًا، وإذا صلح قلبُه سعد في دنياه، وفاز في أُخراه، فصلاح القلب مفتاح الفوز، وهو باب النجاة في الدنيا والآخرة.
ولا ريب أن الرسل –صلوات الله وسلامه عليهم- دعوا الخلق إلى أعمالٍ مختلفة تختلف بها شرائعهم كما قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة:48]، إلا أنهم متفقون على مقصود تلك الأعمال، فإن مقصود تلك الأعمال على اختلافها في كل الشرائع هو إصلاح القلوب وإقامتُها على ما يحبُّ الله تعالى ويرضى، فجميع الرسل جاءوا لتحقيق سلامة القلب، وسلامةُ القلب مفتاحه العلم بالله، والعلم بالطريق المُوصل إليه -سبحانه وبحمده-.
والدليل على ذلك أن الله تعالى جعل النجاةَ يوم القيامة لمن جاء بقلبٍ سليم ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾[سورة الشعراء: 88-89]، ولا يمكن أن يتحقق سلامة القلب إلا بالإقامة على عبادة الله وحده لا شريك له، أي: إلا بتحقيق العبودية لله -جلَّ وعلا-، والعبودية لا تتحقق إلا بهذين الأمرين: العلم بالله، والعلم بالطريق الموصل إليه -جلَّ في عُلاه-، وهذا ما اتفقت عليه جميع الرسالات، فجميع الرسالات وجميع الشرائع جاءت تُعرف بالله، وهذا يُثمر العلم به -سبحانه وبحمده- وجاءت تُبيّن للناس كيف يصلون إلى الله -عزَّ وجل- الطريق الموصل إلى الله -عزَّ وجل- وهذا متعلقٌ بالشرائع التي جاءت بها الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-.
وجميعهم مشتركون في هذا الأصل، كما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «الأنبياء إخوة من علَّات، وأمهاتهم شتَّى» أي شرائعهم متفرقة، فالدِّين الذي جاءوا به هو العلم بالله، والشرائع التي تفرقت هي ما قضاه الله تعالى مما تَصلُح به أحوال الناس على اختلاف أزمنتهم، واختلاف أحوالهم، وما يتناسب مع صلاح قلوبهم، فلما كانت هذه الشريعة على نحوٍ كاملٍ من التشريع الذي يَصلح به حالُ الناس في كل زمانٍ وفي كل مكان بعد بعثة سيد الآنام -صلوات الله وسلامه عليه- اتفقت الشريعة في كل البشرية بعد بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- فكمُل به الدين، فلا دينَ أكمل مما جاء به -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ولما كانت الشرائع مؤثرة في صلاح القلب نبَّه إلى ذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير -رضي الله تعالى عنه- حيث قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمورٌ مُشتبهات».
هذه المقدمة في خبر النبي -صلى الله عليه وسلم تتعلق بالأحكام التفصيلية؛ لأن الحلال والحرام مما يتعلق بالتشريع، لكن في خَتْم الحديث قال -صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مُضْغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، فالرابط بين أول الحديث وآخره: أن إقامة العبد شرائعَ الله -عزَّ وجلَّ- بتحليل الحلال، وتحريم الحرام، وتوقِّي المشتبه من الأحكام يُثمر صلاح قلبه، وإذا صلح قلبه صلح عمله، فكان الحديث الشريف من أوله إلى آخره بيان للطريق الذي تصلح به القلوب، وبيان الأثر الناتج عن صلاح القلب، وأن صلاح القلب يُثمر استقامةً في دين العبد، وصلاحًا في سرِّه وعلَنِه.
ولهذا كان ينبغي لكل مؤمن أن يعتنيَ غايةَ العناية بقلبه فإنه مفتاح نجاته، فبقدر ما يكون مع الإنسان من صلاح القلب وسلامته واستقامته يكون صلاح عمله، يكون انشراح صدره، يكون استقامة دينه، يكون ما يَنعم به في الدنيا من نعيم الإيمان، وما يفوز به في الآخرة مما أعده الله تعالى لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ثمَّة ارتباطٌ وثيق بين صلاح القلب وسعادة الخلق، فبقدر ما يحققون من صلاح قلوبهم واستقامتها وحياتها بقدر ما ينالون من سعادة الدنيا وفوز الآخرة، ولهذا أناط الله -تعالى- النجاة يوم القيامة بسلامة القلب، قال: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ [سورة الشعراء: 88-89]، ولك من النجاة والفوز بقدر ما تحقق من السلامة؛ لأن الحكم أُنيط بوصف، والقاعدة في خطاب الشارع: أن كل حكمٍ دنيوي أو أخروي أُنيط بوصف يزيد بزيادة الوصف، فكلما زادت سلامة القلب زاد انتفاع العبد يوم القيامة، زادت نجاته، زاد فوزه، زاد سبقه، زاد نعيمه، زاد ثوابه عند الله -عزَّ وجل-، وبقدر ما يحصل من النقص ينعكس هذا على حاله من النجاة والفوز والسعادة والنعيم، والناس في هذا متفاوتون تفاوت عظيمًا.
لهذا من المهم أن يعتنيَ المؤمن بتحقيق سلامة قلبه، وأن يجتهد في هذا كل لحظات زمانه، فإن ذلك وظيفة العمر وليس وظيفةً في زمانٍ محدد، ولا في وقتٍ محدد، ولا في حالٍ محددة، بل في كل الأحوال وفي كل الأوقات أنت تعمل لإصلاح قلبك، فكن على ذلك من الحريصين، وله من العاملين، فبقدر ما تُحقق من ذلك تُحقق من النجاة.