من أعظم ما تميزت به الشريعة المطهرة أنها شريعة ختم الله تعالى بها الرسالات، فهي شريعة لا تخاطب أهل الزمان بعينه، وليست موجهة إلى مكان بعينه، بل هي رسالة الله تعالى للناس كافة على اختلاف بلدانهم وتعاقب أزمانهم، ومن رحمة الله تعالى أن جعل هذه الشريعة مستوعبة لكل ما يحتاجه الناس عبر هذه العصور وعلى اختلاف الأوضاع والأحوال، واختلاف الأزمان والأماكن، قد قال الله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾[الأنعام: 38]، وقال –جل وعلا-: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[النحل: 44]، فالذكر حوى بيان كل ما يحتاجه الناس.
قال ابن مسعود: قد بين لنا القرآن كل علم وكل شيء، وهذا قوله رضي الله عنه في بيان معنى قول الله –جل وعلا-﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾[النحل: 44]، فهذه الشريعة مبين فيها الدقيق والجليل، كل ما عظم علم الإنسان بكلام الله –جل وعلا-ورسخت قدمه في فهم معاني كلام النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-تبين له من العلوم ما يجيب به على كل نازلة أو حادثة عبر العصور والأيام والليالي.
ولهذا كانت هذه الشريعة متقنة في أصولها وأحكامها، ولم تأت فقط لبيان أحوال الناس في زمان معين، أو في مكان معين، أو في حال معينة، بل جاءت في بيان أحوال في المنشط والمكره والعسر واليسر، وعلى مر العصور وتعاقب الدهور، ما في زمان من الأزمنة توقف الاستدلال بالكتاب والسنة على حوادث الناس ونوازلهم، بل كان الناس على توالي العصور يجدون في كلام الله تعالى وفي كلام النبي –صلى الله عليه وسلم-ما يجيبون به على ما ينزل من الحوادث، وما يجد من المسائل، لا فرق في ذلك بين قريب العصور من زمن الوحي وبعيدها، بل هذا العصر الذي تغيرت فيه حياة الناس تغيرًا كليا، واختلف فيه نمط معاشهم من كل ناحية وانفتح على الناس ما اختلف به حالهم بالكلية في كتاب الله وكلام النبي –صلى الله عليه وسلم-ما يجيب على كثير من المسائل التي جدت ونزلت.
ولهذا من الضروري لطالب العلم أن يعتني بالنوازل فقهًا ودراسة، وبحثًا ونظرًا حتى يصل إلى معرفة كمال الشريعة وصدق قول الله تعالى: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة: 3]، فمن أبرز ما يتوصل إليه الدارس لهذه المسائل النازلة الباحث فيها أن هذه الشريعة شريعة كمال ليست ناقصة بوجه من الوجوه، وهذا ليس فقط من الناحية النظرية، بل كلنا نعتقد هذا من الناحية النظرية أن الشريعة كاملة، لكن لما ينادى على مواقع الناس ومسائلهم وما يحتاجونه، ونجد ذلك ملموسًا في الواقع، وفرق بين العلم النظري والعلم العملي التطبيقي، وفرق بين رأي العين وسماع الأذن، فما رائي كمن سمع.
والعلم إما علم يقين، وإما حق يقين، وحق اليقين هو الذي يدرك فيه الإنسان حقيقة وتأويل ما جاء به الخبر مما اعتقده وأيقنه.
من فوائد دراسة هذه النوازل والعناية بها: أنها قيام بما أوجبه الله تعالى على أهل العلم من الاستنباط الذي يتوصلون به إلى أحكام تهمهم، وأحكام تتعلق بها حقيقة عبوديتهم لله –جل وعلا-.
الثالث من الفوائد لدراسة هذه النوازل أنها قيام بفرض من فروض الكفايات في بيان الشريعة وإيجابها وإيضاحها والنصح للمسلمين، وذلك أن الله تعالى فرض التعلم على طائفة من أهل الإيمان لينذروا قومهم قال تعالى: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة: 122].
من الفوائد أيضًا، فوائد دراسة النوازل أنها من العمل الصالح، بل هي من أفضل العمل الصالح، فهي داخلة فيما جاء به الخبر عن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-كما في الصحيحين من حديث عثمان: «خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ»[صحيح البخاري(5027)]، والقرآن تعلمه ليس فقط في حفظه وإجادة قراءته وتلاوته، بل في فهمه وتنزيله في الواقع والعمل به، وهذا من تعليم القرآن.
هذه جملة من الفوائد المتصلة بدراسة النوازل، لو قال قائل: أعطنا تعريفًا، نريد تعريفًا للنوازل الفقهية بحيث نميزها عن سائر الفقه الذي تكلم عنه العلماء في مدوناتهم ومؤلفاتهم، فأقرب ما يقال في تعريف النوازل الفقهية هي: علم يبحث في الأحكام الشرعية للحوادث والوقائع المستجدة التي ليس فيها نص، وليس فيها اجتهاد سابق يبين حكمها.
هذا ما يتصل بتعريف النوازل الفقهية.