المجموعة الثانية من المسائل فيما يتصل بالمفطرات المعاصرة هو ما يصل إلى الجوف من طريق الأنف، الأصل في أن ما يصل إلى الجوف من طريق الأنف في كونه مفطرا حديث «بالغْ في الاستنشاقِ إلا أن تكون صائمًا»[أخرجه أبو داود في سننه(2366)، وصححه الألباني] هذا الحديث في المسند من حديث عاصم بن لقيط بن صبره، عن أبيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «بالغْ في الاستنشاقِ إلا أن تكون صائمًا» فالأنف منفذ إلى الحلق بدلالة السنة، وباتفاق أهل العلم.
ولهذا يجب على الصائم أن يحترز من وصول المفطرات التي هي الأكل والشرب من طريق الأنف، لقوله –صلى الله عليه وسلم-:«بالغْ في الاستنشاقِ إلا أن تكون صائمًا» بقي عندنا مسألة بعد هذا التقديم.
هناك عدة مسائل هي في الحقيقة ليست من المسائل المعاصرة من كل وجه، مثلا استعمال الروائح النفاذة التي يجد لها طعما في حلقه كالبويات مثلا، وكبعض المبيدات الحشرية، وكبعض العلاجات الطبية، هل هذا مفطر أو ليس مفطرًا؟
استنشاق ما يستعمله أصحاب الأمراض الصدرية له طريقان؛ إما طريق الفم، أو طريق الأنف، سواء كان من طريق الأكسجين، أو من طريق أجهزة البخار الرذاذي، أو من طريق البخ السائل المضغوط أو البودرة سواء كانت من طريق الفم، أو من طريق الأنف، وهذه لم نذكرها هناك؛ لأنها قد تكون من طريق الأنف أو قد تكون من طريق الفم، هل هذه الأشياء مفطرة؟
وأيضًا القطرة قطرة الأنف نقول في هذه الأشياء العلماء رحمهم الله لهم في ذلك قولان، فيما يتصل بما يصل إلى الجوف من طريق الأنف، قطرة الأنف على وجه الخصوص تكلم عنها العلماء المتقدمون، ولعلنا نستعرض كلامهم حتى يكون هاديًا لنا، لأن كل من قال بالتقطير يقيس على مسألة كلام العلماء، أو يلحق ما جد بالمسائل بكلام الفقهاء فيما يتعلق بقطرة الأنف.
الفقهاء ذهب جماهير الفقهاء رحمهم الله إلى أن الصائم إذا أدخل متعمدًا دواء في أنفه، فوصل إلى جوفه فإنه يفطر هذا القول الأول، ودليلهم في ذلك حديث لقيط بن صبره وهذا قول من؟ الجمهور، الأول قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.
القول الثاني في المسألة وهو قول جماعة من الفقهاء، من فقهاء المذاهب، وكذلك قول الظاهرية أن ما يدخل إلى الجوف عن طريق الأنف من الأدوية لا يفطر، إلا أن يقصد إيصاله إلى جوفه.
أما إذا قصد أن يصل إلى أنفه دون أن يصل إلى جوفه، فإنه لا يفطر الأصل صحة الصوم.
قيل لهم النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «بالغْ في الاستنشاقِ إلا أن تكون صائمًا»[سبق] يقولون: نحن نقول بذلك، من استعمل دواء في أنفه، فإنه لا يبالغ في الاستنشاق إذا كان يخشى أن يصل شيئًا إلى جوفه، لكن النبي –صلى الله عليه وسلم-لم يقل بأنه يفطر، إنما احتاط للصوم بمنع الصائم من المبالغة في الاستنشاق، فليس في الحديث دليل على الفطر بما يصل إلى الجوف من طريق الفم إذا كان لا يقصد بذلك وصوله إلى جوفه، لكن إذا كان يقصد الوصول إلى جوفه، كالذي يتعذر تغذيته من طريق الفم، فتوصل التغذية من طريق الأنف، إن هذا يفطر، لماذا؟ لأن هذا قصد إيصاله إلى جوفه، وجعل الأنف طريقًا للوصول، أما ذاك الذي له غرض مثلا في أن يوصل دواء إلى الجيوب الأنفية، أو علاجا لمجرى النفس، أو ما أشبه ذلك، فإنه لم يقصد إيصال شيء إلى جوفه، إنما قصد الوصول إلى هذا، ولا طريق له إلا من طريق الأنف، فلا يفطر بهذا.
وهذا القول من حيث الأصل في خلاف الفقهاء المتقدمين أقرب إلى الصواب، وهو أنه لا يفطر بالقطرة في الأنف، ولا بإيصال شيء بإدخال شيء في أنفه إذا لم يقصد وصوله إلى جوفه.
على هذا تأتي المسائل المعاصرة بأشكالها وصورها، فالمسائل المعاصرة وهي مسائل البخاخ والروائح العطرية والروائح النفاذة، والمراهم، والأكسجين، هذه الأشياء للعلماء فيها قولان؛ إذا وصل منها شيء إلى الجوف بناء على ما تقدم من الخلاف السابق في مسألة القطرة، فمن رأى الفطر لما يصل إلى الجوف من طريق الأنف قال: إن تعمد إيصال ذلك إلى أنفه، فوصل إلى جوفه فإنه يفطر.
وعلى هذا أصحاب الأزمات الصدرية وضيق التنفس فإنهم يفطرون، ومنه ما يعرف ببخاخات الربو على هذا القول تكون مفطرة؛ لأنه يصل شيء منها إلى الجوف، سواء استعملت من طريق الأنف، أو استعملت من طريق الفم، لا فرق.
والقول الثاني في هذه المسألة أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فلا يفطر بروائح نفاذة ولو وجد طعمها في جوفه، ولا يفطر بهذه المعالجات التي يعالج بها الصدر؛ سواء كانت مضغوطة، أو كانت بودرة جافة أو كانت بخارًا يستنشق ويجذب من طريق الأنف، والعلة في هذا أن الأصل صحة الصوم، وأن هذه الأشياء ليست أكلا ولا شربا، وليست في معنى الأكل والشرب، ويضاف إلى هذه الأدلة الثلاثة التي ذكرناها أولا أنه لا يقصد إيصال هذه الأشياء إلى الجوف، إنما وصولها للجوف تابعا وليس قصدا، وبالتالي فإنه لا يفطر، فهي نظير ما لا يمكن الاحتراز منه مما يصل إلى الجوف.
يقول قائل: لا مساواة بين ما لا يمكن الاحتراز منه هنا، وما لا يمكن الاحتراز منه من غبار أو دخان؟
الجواب: لا، إن عدم الاحتراز في أن الوصول هنا للأثر، وهذا لا يمكن الاحتراز منه؛ لأن من استعمل علاجا في أنفه لا يريد أن يوصل ذلك إلى جوفه، لكن هو محتاج إلى العلاج، والذي لا يمكن الاحتراز منه ما يمكن أن ينفذ مما لا يختاره ولا يرضاه.
وقد صدرت الفتوى في بعض هذه المسائل أن جماعة من أهل العلم، فمثلا صدر القرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي بأن ما يصل من الأكسجين أو من طريق المعالجة بالغازات إلى الجوف ليس مفطرًا، فعلى سبيل المثال في القرارات التي جمعت المفطرات قالوا: من جملة ذلك غازات التخدير البنج، ليس مفطرا ما لم يعطى المريض سوائل ومحاليل مغذية، غاز الأكسجين ليس مفطرا أيضًا صدر بذلك فتوى أو في بعض هذه المسائل فتوى عن شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله-عن اللجنة الدائمة برئاسة الشيخ عبد العزيز ابن باز يقول: هل روائح الطيب أو روائح المبيدات الحشرية تفطر الصائم في رمضان أو غيره؟
قال: الروائح مطلقا عطرية وغير عطرية لا تفسد الصوم في رمضان وغيره فرضا أو نفلًا، سواء وجد طعمها في جوفه أو لم يجد طعمه في جوفه، وبذلك أفتى شيخنا محمد العثيمين –رحمه الله-.