ثاني مسائل المعاملات ما يتعلق بالخيار.
وبيان ذلك أن البيع صفته أنه عقد لازم، والعقود تنقسم من حيث اللزوم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عقود لازمة: وهي ما لا سبيل إلى فسخه إلا برضا الطرفين.
القسم الثاني: عقود جائزة: وهي العقود التي يجوز لكل واحد من الطرفين فسخها، دون رضا الآخر، بحيث لا يتوقف الفسخ على رضا الآخر.
ومثال ذلك: الوكالة؛ فعندما توكِّل شخصًا في أمر فلك أن تفسخ الوكالة - إذا لم تكن بأجر - دون إذنه، والوكيل له أن يفسخ الوكالة دون رضا الموكل، هذا يسمى عقدًا جائزًا.
النوع الثالث: ما كان جائزًا من طرف، لازمًا من طرف: ويمثِّلون له بالرهن، فهو جائز من جهة صاحب الحق، ولازم من جهة من بذل الرهن لتوثيق الحق الذي عليه.
أما البيع فلا خلاف بين العلماء أنه عقد لازم؛ أي: يلزم الطرفين إذا تم، ولا يحل لأحدهما فسخه إلا برضا الآخر.
قوله رحمه الله: "الخيار"، الخيار أتى به - رحمه الله - في بيان أحكام المعاملات؛ لأنه الطريق الذي ينحل به لزوم عقد البيع، ولزوم عقد البيع لا ينحل إلا برضا الطرفين، أو بوجود سبب من أسباب الخيار التي سيأتي ذكرها فيما ذكره المؤلف - رحمه الله - من الصور.
فالخيار في اللغة: اسم مصدر للفعل (اختار).
وفي الاصطلاح: طلب خير الأمرين؛ من إمضاء العقد أو فسخه، هذا المقصود بالخيار. وهو أصناف:
قوله رحمه الله: "سبعة أقسام" أي: الخيار سبعة أقسام، وأجمل المؤلف - رحمه الله - فأدخل قسمًا من الأقسام لم يذكره، وقد نص عليه بعض أهل العلم؛ حيث جعل الخيار ثمانية أقسام، أو ثمانية أنواع. على كل حال الأمر في هذا يسير.
قوله رحمه الله: "1- خيار المجلس"، أي: الخيار الذي سببه المجلس، فهذا من باب إضافة الشيء إلى سببه؛ أي: الخيار الذي سببه كون المتعاقدين في مجلس العقد؛ والمجلس أي: مكان التعاقد، وليس المقصود به المجلس الذي يجلس فيه، إنما المقصود به مكان التعاقد، سواء كان في مجلس أو في طريق أو في مركب أو في محل بيع أو غير ذلك مما تتم فيه عقود البيع، فخيار المجلس أي: الخيار الثابت للمتعاقدين ما داما في المجلس.
قوله رحمه الله: "ما لم يتفرقا حسًّا أو حكمًا"، فإذا تفرق المتبايعان حسًّا بأن تفرقا بأبدانهما فغادر أحدهما مكان العقد، أو حكمًا بأن انقطع ما يتعلق بالعقد، وانصرفا إلى غيره من شئون الحياة وصنوف الحديث غير العقد الذي أبرماه، فإنه في هذه الحال ينقضي خيار المجلس؛ فخيار المجلس ثابت ممتد إلى أن يتفرق المتعاقدان حسًّا أو حكمًا.
ودليل ذلك ما جاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْمُتَابَيِعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا»البخاري (2112)، ومسلم (1531) . فهذا بيان ثبوت الخيار للمتابيعين ما داما مجتمعينِ ما لم يتفرَّقا.
والتفرق ذكر فيه الفقهاء صورتين:
الصورة الأولى: التفرق الحسي بتفرق الأبدان.
والصورة الثانية: التفرق الحكمي، وهو بقاء الأبدان في المكان، لكن مغادرة الحديث إلى حديث آخر غير البيع، وهذا يكون في صور عديدة؛ كأن يكونا مثلًا راكبين في سيارة في سفر، فباع أحدهما الآخر شيئًا، هنا هما في المجلس الذي تم فيه العقد لم يفترقَا مدة عشر ساعات، تم البيع في الساعة الأولى، ثم انصرفا إلى حديث آخر من شئونهما؛ ففي هذه الحالة التفرق حسي أو حكمي؟ التفرق حكمي؛ لأنهما استمرا وامتد بقاؤهما في المكان؛ لحاجتهما للإقامة والاجتماع، لكن التفرق في هذه الحال لا يمتد إلى نهاية مجلسهم، قد يطول، يبقيان مدة طويلة في مكان واحد، كأن يكونا موقوفين، حُبِسَا في مكان مدةً من الزمن، فتم بيعٌ بينهما، فهنا التفرق يثبت بالتفرق الحكمي، وهو أن ينتقلا إلى حديث آخر غير حديث العقد الذي تم بينهما.