الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، أحمده فهو أهل الحمد والثناء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صَفِيُّه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
في هذا المجلس -إن شاء الله تعالى- نشرع في التعليق على "كتاب فروع الفقه" للشيخ "يوسف بن الحسن بن عبد الهادي الدمشقي الحنبلي"، وهو من فقهاء القرن العاشر الهجري، فقد تُوفي -رحمه الله تعالى- سنة تسعٍ وتسعمائة من الهجرة النبوية، والشيخ يوسف بن عبد الهادي -رحمه الله- من الفقهاء الذين اعتنوا بالتصانيف، وكان له تميزٌ في تقريب العلم وتسهيله، حيث إنه -رحمه الله- كتب عدة كتبٍ في تقريب العلوم بشتى صنوفها، وكان مما اعتنى به وأولاه أهميةً في التصنيف، والترتيب، والتأليف علمُ الفقه، كان من العلوم التي اعتنى بها تصنيفًا وتأليفًا علم الفقه، فكتب في ذلك جملة كتابات امتازت بتقريب العلم، وتسهيله، وجمع مهماته، فكان له كتابان شهيران في علم الفقه: الأول: "كتاب القواعد الكلية والضوابط الفقهية"، وقد جمع فيه الفقه من أول أبوابه إلى آخرها في مائة ضابط أو في مائة قاعدة.
ثم إنه -رحمه الله- كتب كتابًا جامعًا في علوم شتى، وكان من جملة ما كتب مختصرًا وتقسيمًا في علم الفقه، وهو في هذا الكتاب الذي نشرع في قراءته في هذا المجلس -إن شاء الله تعالى- والمجالس التالية. وامتاز هذا الكتاب باختصاره، وعناية مؤلفه بالتقاسيم، والتقسيم من الطرق التي يُدرَك بها العلم ويُحصَّل، وسنتكلم -إن شاء الله تعالى- على ذلك في ثنايا حديثنا عن "كتاب فروع الفقه".
سنقرأ -إن شاء الله تعالى- في هذه المجالس اليوم، في هذا المجلس، وبعد العصر، وبعد المغرب "كتاب العبادات" نأتي عليه بجملته من أوله إلى آخره، مع التعليق على مهمات المسائل التي في هذا الكتاب، والتي تُعين طالب العلم وعامة المسلمين على جمع مهمات مسائل هذه الأبواب.
والفقه -أيها الإخوة- من أشرف العلوم وأهمها؛ إذ إن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- جاءوا بعلمين لا غنى بالناس عنهما:
العلم الأول: العلم بالله عز وجل، وبيان ما له من الكمالات، وما له من جليل الصفات سبحانه وبحمده.
والعلم الثاني: العلم بالطريق الموصل إليه، وهذاهو فيما يتعلق بالأحكام، والتي خصها علماء الإسلام اصطلاحًا بعلم الفقه، فالعلم علمان: علمٌ بالله، وعلمٌ بالطريق الموصل إليه.
العلم بالله هو: العلم بما يتعلق بالعقائد والأصول.
والعلم بالطريق الموصل إلى الله: هو المتعلق بمعرفة الطريق الموصل إلى الله، وذلك فيما يتعلق بحقوق الله في العبادات العملية، وكذلك ما يتعلق بحقوق الخلق، وما يكون بين الإنسان وغيره من الناس من المعاملات التي تتصل بإصلاح معاش الناس وصِلاتهم.
فالفقه دائرٌ على هذا القسم؛ وهو بيان الطريق الموصل إلى الله، فكل ما في الفقه من معارف وعلوم هو بيان معالم الطريق إلى الله جل وعلا؛ بيان أسباب الوصول إليه -جلَّ في عُلاه- بطاعته فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر.
فنستعين الله -عز وجل- في قراءة هذا العلم، وهو من أشرف العلوم. والناس فيه على مراتب، وأقل ذلك: أن يعرف المؤمن من هذا العلم ما يُقيم به دينه، فإن العلم ينقسم في الجملة إلى قسمين:
علم كِفائي، وعلم عيني؛
القسم الأول العلم العيني : هو العلم الذي يجب تعلمه على كل مسلم.
والقسم الثاني العلم كِفائي: وهو العلم الذي إذا قام به البعض، وأحاط به من يحصُل به حفظ العلم، وحِفظ الشريعة، وكِفاية الناس في هذه الأبواب، كفى.
وضابط العلم العيني الذي يجب على كل أحدٍ من الناس أن يتعلمه: هو أن يعلم كيف يُقيم دينه. هذا ضابط العلم العيني، ضابط العلم الذي يجب على الإنسان أن يتعلمه هو ما يُقيم الإنسان به دينه فيما يتعلق بالعقائد، وفيما يتعلق بالأعمال، وأما ما عدا ذلك فكله من العلوم الكِفائية؛ يعني العلم الذي يجب على الأمة حفظه، لكن لا على وجه التعين من كل فردٍ من أفرادها.
وبه يُعلم أن العبادات هي من العلم العيني في الجملة؛ لأن العبادة كلَّف الله تعالى بها الناس وطلبها منهم على وجه التعين، هذا هو الأصل في العبادات؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ الذاريات: 56.
وأما ما يتعلق بعلوم المعاملات، فإن المعاملات عِلمها يرجع إلى حاجة الإنسان، فمن كان يبيع ويشتري فهو بحاجة إلى معرفة أحكام البيع والشراء، وهكذا في بقية الأحكام المتعلقة بالقسم الآخر من الفقه وهو قسم المعاملات.