"وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]".
جاء في الآية ذكر الغاية والعلة، وهنا يتنبه المؤمن أنه ما من فرضٍ فرضه الله تعالى، ولا تشريع شرعه الله تعالى إلا وله حكمة، هذه الحكمة قد تبدو لك، وقد تخفى عنك، قد يذكرها الله تعالى نصًّا، وقد لا يذكرها، ويستنبطها أهل العلم فيصلون إليها أو لا يصلون إليها.
إذن الجامع أنه ما من شيء شرعه الله أمرًا أو نهيًا إلا ولله فيه حكمة؛ دليل ذلك قول الله جل وعلا: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾هود: 1، فما من شيء في الشريعة في هذه الآيات الكريمات في القرآن، وفيما جاء بيانه من السنة، إلا ولله فيه حكمة، هذه الحكمة على نحوين:
النحو الأول: ما جاء النص عليه، ما جاء ذكره؛ كقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ هنا نص الله تعالى على الحكمة.
وكقوله جل وعلا: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ﴾ المائدة: 90، 91.
هذا تعليل وتبرير للحكم أمرًا أو نهيًا، فهنا نص الله تعالى على الغاية والحكمة، هذا النوع الأول.
النحو الثاني: ما لم يَرِد النص على حِكمته، إنما جاء الخبر عنه أمرًا أو نهيًا، فهذا لا يخلو من حكمةٍ، لابد أن يكون فيه حكمة، لكن من حيث ظهور هذه الحكمة، وتبينها للناس تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يصل فيه الناس إلى حكمةٍ مستنبطةٍ، وقد تختلف وجهات النظر في الحكمة، وقد تتعدد، يكون هناك أكثر من حكمة، هذا واحد.
القسم الثاني: ما لا يُدرك الناسُ حكمتَه، لا يتبين لهم حكمته، هنا نقول: هذا فيه حكمة، لكنه خفي علينا، نحن صلينا قبل قليل صلاة العصر، كم صلينا من ركعة؟ أربعًا، لماذا نصليها أربعًا والمغرب نصليها ثلاثًا؟ هذا من الأشياء التي لم يتبين لنا فيها حكمة، لكننا نوقن أن الله شرع ذلك لحكمة، فما من شيء في أحكام الله الشرعية أو القدرية إلا وفيه حكمة، ظهرت أو لم تظهر. والحكمة العامة التي تنتظم جميع أحكام الشريعة تحقيقُ العبودية لله.
فلو قال قائل: ما الحكمة أننا نصلي الظهر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، والفجر ركعتين؟ ما الحكمة في تفاوت الركعات في الصلوات المكتوبات؟
الجواب: تحقيق العبودية لله، لو كان كل شيء تتعبد لله تعالى فيه بيِّنًا لك وظاهرًا، ويدركه عقلك، وتُدرِك نفعه بالعقل، ما تحققت العبودية لله عز وجل على وجه الكمال، إنما العبودية أن تفعل لأن الله أمر؛ أن تفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل.
وأشار إلى هذا المعنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما قال وقد وقف على الحجر: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع - لا فائدة من تقبيله - ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك فأنا أقبلك»البخاري (1597)، مسلم (1270).
إذن الحكمة ما هي؟ الاتباع، الاقتداء، امتثال ما أمر الله تعالى به: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ الأحزاب: 21 هذه الحكمة والتي ظهرت لعمر في تلك اللحظة، لكن هذا لا يعني أنه لا حكمة من هذا إلا ذلك، قد يكون هناك حِكَم يصل إليها مَن يصل إليها ممن يتأمل ويستنبط.
الحكمة من الصوم التي نص الله عليها في أوائل فرضه: تحقيق التقوى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي: لأجل أن تتقوا، هذه هي حكمة فرض الله تعالى للصيام؛ تحقيق التقوى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
وهنا تنبيه لكل مؤمن ومؤمنة، أن يفتش عن هذه الحكمة في صيامه، فمن غاب عن صيامه التقوى، فإنه لم يحقق الغرض والغاية من تشريع الصيام، وسيأتينا ما في الصحيح من حديث أبي هريرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»البخاري (1903) مَن لم يَدَعِ القول الباطل، والعمل الباطل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
إذن ذكر الحكمة في أول التشريع هو تنبيه المكلَّفين، تنبيه المؤمنين الذين أُمروا بالصيام أن يحققوا هذه الغاية في صومهم، وأن يفتشوا في صومهم عن تقوى الله تعالى.
والتقوى هي مقصود كل الشرائع.
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾العنكبوت: 45.
ويقول جل وعلا:﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾التوبة: 103.
وفي الصوم هذه الآية.
وفي الحج: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾. ثم قال: ﴿وَتَزَوَّدُوا﴾ في هذه الرحلة؛ رحلة الحج ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾البقرة: 197.
فالمقصود من كل العبادات والتشريعات تحقيق التقوى لله عز وجل.