"وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ». وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ: يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ".
ما ذكره المصنف رحمه الله هنا في حديث أبي هريرة هو أحد قولي العلماء فيمن أفطر متعمدًا، ما الذي يترتب على فطره؟
فمن أهل العلم من يقول: إن من أفطر متعمدًا بأي نوع من أنواع المفطرات، سواء كان ذلك بالجماع، أو كان ذلك بالأكل أو بالشرب أو غير ذلك، فإنه لا ينفعه أن يأتي بيومٍ مكانه.
ما المخرج من هذه المعصية ومن هذا الذنب؟
المخرج هو التوبة إلى الله تعالى، والإكثار من العمل الصالح في الجملة، وفي الصيام على وجه الخصوص، لعل الله أن يكفر عنه.
أما الجمهور، وهو قول الأئمة من المذاهب الأربعة، فيرون أنه عليه الإثم بفعله، وعليه التوبة، ومِن توبتِه أن يقضيَ يومًا مكان اليوم الذي أفسد.
واستدلوا لذلك بما رواه أصحاب السنن وأحمد في المسند من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ فَلْيَقْضِ» مسند أحمد (10463)، سنن الترمذي (720) وحسنه، وابن ماجة (1676)، وصححه ابن حبان (3518)، والحاكم (1557).
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، والاستقاءة إفساد الصوم متعمدًا، لكن أجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن ذلك محمول على ما إذا استقاء للمرض، فلا يفعل ذلك أحد على وجه التشهي، إنما يُفعل ذلك لما يجده من ألم، أو ما يجده من ضيق، فيستقيء بإخراج ما في جوفه، يطلب إخراج ما في جوفه بطريقةٍ من الطرق لأجل أن يدفع أذى ما يجده، فهذا معذور، فيدخل في أنه إنما يقضي المعذور، كما قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة: 184 .
واستدلوا أيضًا ببعض روايات هذا الحديث الذي سيأتي؛ حديث المحترِق، أو حديث الذي جامع أهله في نهار رمضان، ففي رواية أبي داود قال: «وَصُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ» سنن أبي داود (2393)، وابن ماجة (1671)، وقال ابن عبد البر في الاستذكار (3/ 313): رواه هشام بن سعد عن أبي سلمة عن أبي هريرة... فخالف الحفاظ فيه في موضعين: أحدهما: أنه جعله عن أبي سلمة وإنما هو عن حميد. والآخر أنه زاد فيه ذكر الصوم، إلا أن هذه الرواية قال عنها الجمهور: إنها غير محفوظة، ومعنى غير محفوظة يعني مخالفة لرواية الثقات، فأكثر مَن روى الحديث لم يذكر قوله صلى الله عليه وسلم: «صُمْ يَوْمًا مَكَانَهُ»، فقالوا: إذن ليس هناك ما يدل على أنه يصوم يومًا مكان اليوم الذي أفسده.
ما المخرج؟
المخرج ما ذكرت من أنه عليه التوبة إلى الله والإكثار من العمل الصالح، وليس عليه أن يصوم يومًا مكانه، لا تخفيفًا، إنما لأن الجرم عظيم، كما فيما ذكر أبو هريرة: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ - وفي رواية: لم يُجْزِهِ - صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ» سنن الترمذي (723)، والنسائي (3266)، وعلقه البخاري بصيغة التمريض.
ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن من أفطر يومًا من رمضان متعمدًا من غير عذرٍ؛ فإنه يجب عليه أن يصوم ألف يومٍ لقضاء ذلك اليوم، وقيل: بل يصوم السنة كاملةً، وقيل: بل يصوم شهرًا كاملًا؛ يصوم ثلاثين يومًا، وقيل: يصوم عشرة أيام، وقيل: يصوم يومًا واحدًا، هذه أقوال القائلين بأنه يقضي مكان ذلك اليوم يومًا.
والصواب أنه لا ينفعه القضاء، إنما المطلوب منه أن يكثر من التوبة.
وذكر أيضًا: "وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ" هذا إشارة إلى الرواية الثانية، أي قال ابن مسعود بأنه لا يجزئه صيام يومٍ مكان اليوم الذي أفسد.
قوله رحمه الله: "وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَإِبْرَاهِيمُ" أي: النخعي "وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ: يَقْضِي يَوْمًا مَكَانَهُ" فهذا قول جمهور التابعين، وعليه جرى جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب المشهورة.