بعد ذلك قال - رحمه الله -: "ولُبَاب التوحيد: أن يرى الأمور كلها لله - تعالى -، ثم يقطع الالتفات إلى الوسائط، وأن يعبده سبحانه عبادة يفرده بها، ولا يعبد غيره".
يقول - رحمه الله -: "ولُباب التوحيد"، لُبابه؛ أي: حقيقته، وجوهره، وثمرته ونتيجته، وهذا يشبه التأكيد للمعنى السابق: من أنَّ التوحيد يثمر التوكل على الله، وترك شكاية الخلق ولومهم، والرضا بالله، والتسليم لحكمه، قد تقدم الكلام في هذه النتائج الأربع.
هنا أعاد تقرير المعنى بعبارة أخرى: أنَّه من حقق التوحيد في قوله، وقلبه، حقق التوحيد في درجاته التي يدخل بها في الإسلام، ثمَّ بعد ذلك يتفاوت الناس في مراتبه.
"لُباب التوحيد"، اللباب جمع لُب.
وقوله - رحمه الله -: "لُباب التوحيد"؛ أي: غايته، ومقصوده، وجوهره أن يرى الأمور كلها من الله - تعالى-، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع كما تقدم.
قوله رحمه الله: "ثمَّ يقطع الالتفات إلى الوسائط"، كما تقدم، "وأن يعبده - سبحانه - عبادة يفرده بها"؛ أي: يوحده بها، "ولا يعبد غيره"؛ وبهذا يتبيَّن أنَّ لُباب التوحيد هو تكميل اليقين بربوبية الله، وتكميل اليقين بأنَّه لا إله غيره؛ هذا هو الذي يبلغ به الإنسان الذروة والغاية في تحقيق التوحيد.
ولا شك أنَّ الناس متفاوتون في تحقيق التوحيد على مراتب ودرجات، وإن كانوا يقرُّون بأصل المعنى، لكنهم يتفاوتون في يقينهم المتعلق بأصل المعنى؛ ولهذا قال أهل العلم: "الإيمان يزيد وينقص"، وزيادته ونقصانه ليس فقط فيما يكون من الأعمال الصالحة، بل حتى في الإقرار؛ وهذا معلوم؛ فإنَّ الإقرار بالشيء ليس على درجة واحدة، بل هو متفاوت؛ فإقرار العالم المدرك الذي توافرت له الأدلة بإلهية الله - عزَّ وجلَّ - ليس كإدراك من لم تقم في قلبه الأدلة المتوافرة على إلهية الله - عزَّ وجلَّ -؛ وهذا يمكن أن يمثل له بالواقع الذي يعيشه الناس، فإقرار الإنسان بشيء سمعه من ثقة ليس كإقراره بشيء أدركه بعينه؛ إنسان رأى حادثًا؛ رأى واقعة؛ إقراره بها هل هو كإقرار من نقلت له الحاثة بخبر الثقات؟ الجواب: لا، بالتأكيد ليس هذا كذاك، ومنه قولهم: "فما رَاءٍ كمَنْ سَمِع".
فدرجة الإقرار متفاوتة، كذلك الإيمان بأنَّه لا إله إلَّا الله ليس على درجة واحدة، بل هو متفاوت في درجات، ومراتب، ومنازل.
بقدر ما يكون عند الإنسان من العين الباصرة، والقلب الحاضر، والنظر المتأمل المتدبر المتفكر يدرك من حقائق ما يتصل بإفراد الله - تعالى - بالعبودية ما يطيب به قلبه؛ ولذلك يقول الله - تعالى-: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾[فصلت:53]؛ فهذا اجتمعت وتضافرت له الأدلة؛ في كل شيء له آية تدل عل أنَّه واحد، وقد قال الله - تعالى- : ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾[يوسف:105]، لكن لا ينتفعون بها ﴿وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يوسف:105]؛ فبقدر ما يكون الإنسان حاضرَ القلب فإنَّه يتضافر في حقه الأدلة الدالة على صدق إلهية الله - عزَّ وجلَّ-، وربوبيته - سبحانه وبحمده -؛ وهذا معنى قوله - رحمه الله -: "ولُبَاب التَّوحيد: أن يرى الأمور كلها لله"، وهذا من وسائل الوصول إلى ما ذكره - رحمه الله -: "ولُبَاب التَّوحيد: أن يرى الأمور كلها لله - تعالى -، ثم يقطع الالتفات إلى الوسائط، وأن يعبده سبحانه عبادة يفرده بها، ولا يعبد غيره".
بعد أن ذكر المؤلف - رحمه الله - التوحيد بنوعيه، وذكر ما يتصل بتكميله ذكر ما يصد عنه، ويخرج عنه.
إذا كان التوحيد على هذا النحو من النعيم الذي يدركه الإنسان في الدنيا بالطمأنينة والانشراح، وفي الآخرة بالفوز والسبق، فما الذي يصد الناس عن التوحيد؟ لماذا لا يُقبل الناس على التوحيد مع أنَّه مقتضى الفطرة، ودلائله وشواهده مبثوثة في السماء والأرض، وفي الأنفس؛ كما قال تعالى: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾[الذاريات:21]؛ فدلائله أكثر من أن تحصر، لا يمكن حصرها في السماء والأرض، وقد نوع الله الأدلة الدالة على هذا الأصل وثبوته، فلماذا هذا الإعراض؟! لماذا يخرج الناس عن توحيد الله - عزَّ وجلَّ -؟! لماذا أكثر الناس غير مؤمن؟ الله - تعالى - يقول: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾[الأنعام:116]. ويقول: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[الشعراء:8]. والآيات الدالة على كثرة الضالين متوافرة، وكثرة من لا يتبع الهدى متوافرة، ما الموجب لهذا الخروج عن مقتضى هذه الأدلة المتضافرة التي تدل على عبادة الله وحده، وعلى وجوب إفراده بالعبادة؟!