قال - رحمه الله -: "وإنما أنكروا توحيد الإلهيَّة والمحبَّة، كما قد حكى الله - تعالى - عنهم في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾[البقرة:165]".
قال: "وإنَّما أنكروا توحيد الإلهية والمحبة"؛ أنكروا إفراد الله بالعبادة، أنكروا إفراد الله بالمحبة، فجعلوا عبادة غيره حقًّا لازمًا؛ لذلك زعموا إلهًا من دونه جلَّ في علاه -، بل تعجبوا أنَّ الرسول يدعوهم لعبادة الله وحده؛ كما قال الله - تعالى - فيما قصَّه عن هؤلاء في إنكارهم أن يكون الإله واحدًا؛ قال المشركون: ﴿أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ [ص:5]؛ أي: كيف يكون للخلق كلهم إله واحد يعبدونه؟!
ولو أنَّهم أعملوا عقولهم لما وجدوا إلَّا صدق ما أخبرت به الرسل من أنَّه لا يستحق العبادة إلَّا الله، فإذا كان الخلق كلهم لم يخلقهم إلَّا الله، ولا يملكهم إلَّا الله، ولا يرزقهم إلَّا الله، ولا يدبرهم إلَّا الله، فكيف لا يكون لهم إله واحد الذي خلقهم، ورزقهم، ودبرهم، وملكهم؟!
إنَّ صرف العبادة لغيره هو خروج عما يقتضيه العقل، وما تدل عليه الفطرة، وما تدل عليه الآيات في السماوات، وفي الأرض، وما أقامه الله من الشواهد عبر التاريخ من أنَّ كلَّ من عبد سوى الله إنَّما يعبد ضلالة، ويعبد عمى، وأنَّ الكمال، والسعادة، والفلاح، والنجاح في أن لا تعبد إلَّا الله وحده لا شريك له، في أن لا تعبد غيره - جلَّ في علاه -، أن تعبده وحده لا شريك له.
فلا يكون في قلبك محبوب سواه، ولا يكون في قلبك مخوف سواه، ولا يكون في قلبك مرجو غيره سبحانه ويحمده، فله الحب وحده، وله الخوف وحده، وله الرجاء وحده سبحانه وبحمده؛ ولهذا يقول المؤلف - رحمه الله -: "وإنَّما أنكروا توحيد الإلهية"؛ أي: أنكروا أن لا يعبد غير الله، أنكروا أن لا تصرف العبادة لغيره، فتجدهم يدعون غير الله، ويذبحون لسواه، ويحلفون بغيره، ويخافون غيره خوف السر، ويرجون الهبات والعطايا من سواه؛ وكلُّ هذا خارج عن توحيده - جلَّ في علاه -.
قال الله - جلَّ وعلا -: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165]؛ هذه الآية الكريمة في سورة البقرة، هي أول آية ذكر الله - تعالى - فيها صورة من صور الشرك؛ فإنَّ أصل الشرك تسوية غير الله - تعالى - بالله في المحبة، فمَن سوَّى غير الله بالله في المحبة صرف المحبة التي لله لغيره يكون قد وقع في الشرك؛ ولذلك ذكر الله - تعالى - في أول ما يكون من صور الشرك في في كتابه شرك المحبة؛ ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾[البقرة:165]؛ أي: بعضهم ﴿مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا﴾[البقرة:165]؛ أي: أمثالًا، ونظراء، ومساوين لله ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة:165]؛ هذا معنى التنديد، قال: ﴿أَندَادًا﴾[البقرة:165].
ثمَّ فسر وجه التنديد فقال: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾[البقرة:165]؛ فأفسدوا المحبة التي يجب أن تكون لله بأن صرفوها لغيره؛ ولذلك حارت قلوبهم، وضلَّت أفئدتهم، وضاعت عقولهم، وتشتتت قلوبهم، وأظلمت نفوسهم لمَّا عبدوا غيره وأحبوا سواه - جلَّ في علاه -، فمحبة الله - عزَّ وجلَّ - هي الفلاح، هي النجاح، هي النجاة.
وكلُّ من أحبَّ غير الله - عزَّ وجلَّ - محبة عبادية فإنَّه لا بد وأن يناله من الضيق، والكدر، والحيرة ما يجعله في ضلال، وعمى، وفي شقاء؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾[الأنعام:125]؛ كالذي يتنفس في المناطق العالية، لا يجد من الهواء ما يكفي حاجته، فتجده لاهثًا طوال الوقت غير مستريح، ولا مطمئن لعدم أخذ ما يكفي من الهواء كذلك من عبد غير الله - عزَّ وجلَّ - فلا بد أن يناله من الشقاء ما يناله؛ لأنَّ قلبه لم يسكن.
فالقلب مضطر إلى محبوبه الـ *** أعلى فلا يغنيه حب ثان
وصلاحه وفلاحه ونعيمه *** تجريد هذا الحب للرحــــــمن
أنْ تفرد الله بالمحبة، فإذا أحببت غيره وقعت في صور من الهلاك والشر ما لا تطيب به حياتك، ولا تسعد به نفسك، بل تكون في قلق، وضيق، وكدر، ورعب وخوف؛ لأنه قد فقد قلبك سبب حياته، ونجاته؛ وهي محبة الله - تعالى - وتعظيمه.
أيُّها الإخوة؛ إنَّ الشرك في جميع صوره يدور على معنى واحد؛ وهو أن تسوي غير الله بالله؛ هذا معنى الشرك، الشرك الذي جاءت الرسل بالنهي عنه؛ هو النهي عن تسوية غير الله بالله، أن تجعل لله نظيرًا، أن تجعل لله مثيلًا، أن تجعل لله مكافئًا، أن تجعل لله مساويًا.
وكل من أشرك بشيء وسوَّى الله بغيره؛ فإنَّه قد وقع في التنديد الذي نهى الله - تعالى - عنه بقوله: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:22].
الله - تعالى - يقول: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة:165]؛ أي: من المشركين في حبهم لله، فتكون المقارنة بين حب المؤمنين لله وحب المشركين لله، أيُّهم أشد حبًّا؟ حب المؤمنين، لماذا؟ لأنَّهم أخلصوا قلوبهم لله، فلا يحبون سواه، أمَّا أولئك فأحبوا الله، وأحبوا الأولياء الذين يدعونهم من دون الله، أحبوا الأصنام، أحبوا الأوثان، ففرقوا محبتهم وكان التفريق سببًا لضعفه.
المعنى الثاني في هذه الآية: والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله من المشركين في محبتهم لمعبوداتهم؛ وذلك لأسباب:
السبب الأول: أنَّ محبة الله تعززها الفطرة، فكلُّ مولود يولد على الفطرة، فحب الله ثابت في الفطرة؛ ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[الروم:30].
السبب الثاني:أنَّ حبَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقوم في قلب العبد لعظيم إحسانه، فاستشعاره بأنَّ كلَّ إحسان يصل إليه من الله يوجب محبته سبحانه، وأنَّ كلَّ ضر يندفع عنه من الله يوجب محبته سبحانه؛ ولذلك كان أهل الإيمان أشد حبًّا لله - عزَّ وجلَّ - من محبة المشركين لأصنامهم ومعبوداتهم من دون الله.
السبب الثالث: عظم محبة المؤمنين، أو زيادة محبة المؤمنين لله عن محبة المشركين لمن يعبدونهم، أنَّ الله - جلَّ في علاه - متصف بصفات الكمال فله الأسماء الحسنى، وله الصفات العلا، وله الأفعال الجميلة.
بخلاف المعبودات من الأصنام وغيرهم فإنَّه يتطرق إليهم من النقص والعيب ما الله به عليم؛ ولذلك لا يمكن أن يكون لله نظير، ولا له سمي، ولا له كفؤ، ولا له مساوٍ - جلَّ في علاه - ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11] ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:4] ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾[مريم:65] ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:22]؛ ولهذا أهل الإيمان أعظم حبًّا لله من محبة المشركين لما يحبونهم من الأصنام، والمعبودات من دون الله.
أيُّها المؤمنون، لماذا ذكر الله - عزَّ وجلَّ - المحبة في أول ما ذكر من صور الشرك؟
المحبة هي أصل العبادة، فإنَّك تعبد من تحب، وبقدر تحقيقك لمحبة الله، بقدر تحقيقك لعبادته، وتحقيقك لتوحيده - جلَّ في علاه -؛ ولهذا كل نقص في العبادة ينشأ عن نقص المحبة، والمحبة عبادة، وعمل قلبي لا ينقطع في الدنيا، ولا ينقطع بانتهاء التكليف، بل المؤمنون يحبون ربَّهم في الدنيا، ويحبونه في الآخرة، نسأل الله أن يملأ قلوبنا محبةً له - جلَّ في علاه -.
يقول قائل: لما نقول: يجب إفراد الله بالمحبة، ألا يحب غير الله؟ ألا يكون في القلب محبوب سوى الله؟ الإنسان يحبُّ ماله، ويحبُّ ولده، ويحبُّ زوجه، ويحبُّ أهله؛ كل هذه المحاب لا بأس بها، إلَّا أن تكون صادَّة عن طاعة الله، أو أن تكون سببًا للوقوع في معصية الله؛ فهذه محاب طبيعية لا حرج فيها، يحبُّ الإنسان ولده، يحبُّ الإنسان زوجه، يحبُّ الإنسان مَن أحسن إليه؛ هذه المحاب ليست هي ما نتحدث عنه من إفراد الله بالمحبة.
إفراد الله بالمحبة، المقصود بالمحبة: المحبة العبادية، محبة الشيء لذاته، ولعظيم صفاته، وجميل أفعاله، وكريم خصاله - جلَّ في علاه -؛ هذه المحبة التي تقتضي تمام الانجذاب لله - عزَّ وجلَّ -، والطاعة له لا تكون إلَّا لله - عزَّ وجلَّ -، ولا تكون لسواه - سبحانه وبحمده.
وهي التي يجب إفراد الله - تعالى - بها، فإذا صرفها الإنسان لغيره يكون قد وقع في الشرك، والمشركون لمَّا أحبوا معبوداتهم من الأولياء، والصالحين، والأنبياء، والجن، والأصنام، وما يحبونهم، وما يعبدونهم من دون الله سووا غير الله بالله.
لما نقول: سووا غير الله بالله، هل يعني أنهم سووا غير الله بالله في كل وجه؟ الجواب: لا، لا يلزم أن يسووا غير الله بالله في كل شيء، لو سووا غير الله بالله في شيء واحد، فإنَّهم يكونون قد وقعوا في الشرك، تسمية غير الله بالله التي هي الشرك لا يلزم أن تكون من كل وجه؛ ولهذا لا يوجد أحد ممن يعبد غير الله - عزَّ وجلَّ -، يقول: إنَّما يعبده من دون الله مثل الله - عزَّ وجلَّ - في كل شيء، بل حتى الذين قالوا: إنَّ العالم له خالقان؛ الظلمة والنور لا يساوون بين الظلمة والنور، بل يقولون: الظلم إله الشر، والنور إله الخير، ويمدحون إله الخير، ويذمون إله الشر، ويجعلون إله الشر تابعًا لإله الخير.
فما من أحد يسوي غير الله بالله من كل وجه؛ فلذلك التسوية ولو كانت في شيء واحد، فإنَّها شرك، ولا يلزم أن تكون تسوية من كل وجه.
ولذلك يقول المؤلف - رحمه الله -: "فلما سووا غيره به في هذا التوحيد"؛ وهو محبته "كانوا مشركين"؛ أي: كانوا قد وقعوا في الشرك الذي ذمهم الله - تعالى - به في قوله - جلَّ وعلا -: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾[البقرة:165].