"وتأمَّل قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الزخرف:72]، مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يدْخل أحدٌ مِنْكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ» أخرجه بنحوه البخاري (5673)، ومسلم (2816) .
تجد الآية تدل على أنَّ الجِنان بالأعمال، والحديث ينفي دخول الجنة بالأعمال، ولا تنافي بينهما؛ لأن توارد النفي والإثبات ليس على محلٍّ واحد".
الآن يُجيب على ما استدلوا به من أنَّ دخول الجنة بعمل الإنسان.
قال: "قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الزخرف:72]"، قد يُفْهَم منه أنَّ دخول الجنة لا يكون إلا بالعمل فقط، وليس لفضل الله - عزَّ وجلَّ – أثرٌ في دخول الجنة، ليس لمنَّة الله ورحمته أثرٌ في دخول الجنة.
لكن، يقابِل ما يُتَوَهَّم من دلالة الآية ما دلَّ عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَاعْلَمُوا أَن أحدًا مِنْكُم لن يدْخل الْجَنَّة بِعَمَلِهِ» تقدم تخريجه فنفى تأثير العمل في الدخول. في هذه الحال يوقن المؤمن أنَّ النصوص لا يمكن أن تتعارض، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾[النساء:82]، النصوص مُلْتئِمَة، متَّفِقة، مُتَّسِقة، متشابهة، ليس بينها تعارضٌ ولا اختلاف ولا تضاد؛ ولهذا يقول - رحمه الله -: "ولا تنافي بينهما" أي: لا تنافي بين الآية والحديث. كيف لا تنافي؟
يقول - رحمه الله -: "لأن توارد النفي والإثبات ليس على محلٍّ واحد؛ فالمنفيُّ باءُ الثَمَنِيَّة واستحقاق الجنة بمجرد الأعمال، ردًّا على القدريَّة المجوسية التي زعمت أن التفضُّل بالثواب ابتداءً متضمنٌ لتكدير المِنَّة".
إذًا المنفي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُم الْجَنَّة بِعَمَلِهِ» تقدم تخريجه المنفي هو استقلال العمل في دخول الجنة، عملك مهما بلغ إتقانًا وصلاحًا لا يؤهِّلُك لدخول الجنة بمجرده، لولا - رحمة الله - الذي تفضَّل عليك بالقبول وأعطاك على ما عملته من الصالح الثواب الجزيل والعطاء الوفير، فهو يعطي - سبحانه - على القليل الكثير؛ إذ إنَّ نِعم الله عليك كثرى، ولو وازنت بين نعمة من نعم الله؛ نعمة البصر مثلًا؛ منذ أن وُلدت إلى هذه الساعة وأنت تُبْصِر، الآن لو طفا الكهرب في بيتك؛ واستدعيت من يُصلح لك الكهرب، وأصلحه بالمجان في ليلةٍ ظلماء، وأبصرت، كيف تجد إحسانه عليك؟ تقول: الله يجزيك خيرًا، ما قصرت، فزعت لي في هذه الليلة الظلماء، وتجزل الثناء عليه؛ لأنه ساعد في إضاءة بيتك بعد انقطاع الضوء عنه، وهي لحظات. أنت تُبْصِر دون عملٍ منك، تفتح عينك وترى، منذ أن خلقك الله إلى هذه الساعة، هذه نعمة عظمى لا نستشعرها؛ لأننا ألِفْنَاها، أصبحت شيئًا لا نستشعره؛ لأننا ألِفْنَاه، هذه النعمة لو قيل لك: نؤجرك ضوءًا؛ لتُبصر طريقًا بقدر كذا وكذا، وأنت في ضرورة ومَقْطعة، لبذلت غاية ما تستطيع لإدراك هذا الضوء؛ حتى تصل إلى مأمنك، أو إلى مكان رغبة وصولك، فكيف بالذي أعطاك البصر دون مقابل!! إنما فضلٌ وإحسانٌ ومنَّة، عملك كله لا يكافئ جزءًا يسيرًا من هذه النعمة، وهي نعمةٌ واحدة، فكيف بنعمة السمع، نعمة الإدراك، نعمة العقل، نعمة القوة في البدن، نعمة الحركة؟! نِعم متوافرة جزيلة لا يُكافئ العبد ربه عليها ولا يَقْوَى، إلا بأن يحمده وأن يشكره، وأن يُقِرَّ بعجزه عن مقابلة هذا الإنعام ومكافأة هذا الإحسان؛ ولهذا لا يمكن أن يكون العمل كافيًا في دخول الجنة؛ لأنه لا يجزي بعض نِعم الله عليك، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وَاعْلَمُوا أَن أحدًا مِنْكُم لن يدْخل الْجنَّة بِعَمَلِهِ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَتِه» تقدم تخريجه .
"والباء المثبتة التي وردت في القرآن هي باء السببية" يعني في قوله تعالى: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الأعراف:43]، ونحو ذلك من الآيات، الباء هنا ليست باء الثَمَنِيَّة، ليست عِوَضًا ومقابلًا، إنما هي باء السببية.