قال رحمه الله: (ويُسن لمسافر يباح له القصر).
تقدم أن هذا من مفردات مذهب الحنابلة، وهو أن الفطر سنة مطلقًا للمسافر، احتاج أم لم يحتج، سواء كان السفر شاقًا أو غير شاق، في كل الأحوال.
وجمهور العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية: على أن ذلك مقيدٌ بالمشقة، التي من أجلها شُرع الفطر في السفر.
ولكن الأصحاب أَعْملوا النصَّ على وجه العموم، واستدلوا بأدلة: من أبرزها:
- حديث جابر في الصحيحين: «ليس من البر الصوم في السفر»، وتكلمنا على ذلك.
ثم قال -رحمه الله-: (ولمريضٍ يخاف الضرر).
هذا ثان من ذُكر في العذر، وقيد المرض بقوله: (يخاف الضرر)، وهذا لبيان المرض المبيح للفطر، وأنه ليس كل مرض، إنما المرض المبيح هو ما كان يحصل به ضرر، أو يخاف به ضررٌ على المريض إذا صام.
فقوله: (ولمريضٍ يخاف الضرر)، أي: بالصوم.
وهذا القيد لم تُشر إليه الآية نصًا؛ حيث قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾ البقرة:184
فأطلق المرض، وقوله ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا﴾البقرة:184، مريضًا نكرة في سياق الشرط، فتعم كل مرض، فتقييده بقوله: (يخاف الضرر) يحتاج إلى دليل.
ودليل هذا القيد: هو المعنى الذي من أجله شُرع الفطر، وهو دفع الأذى أو الضرر المترتب على الصوم بسبب المرض.
وبالتالي هذا معنىً مفهومٌ من مقصود النص، لا من منصوصه، فإنه إنما شُرع الفطر، ورُخص فيه للمريض؛ تسهيلًا وتخفيفًا، فإذا لم يوجد ما يقتضي التسهيل والتخفيف: بقي الحكم على الأصل.
ولهذا نص الفقهاء على هذا القيد؛ لإخراج الأمراض التي لا يتضرر بها الصائم بالصيام.
وذهب بعض أهل العلم إلى إعمال الإطلاق الذي جاء به النص دون قيد، فعمموا الحكم على كل مرض، ولو لم يكن يتأثر بالصيام، وممن ذهب إلى هذا القول: البخاري رحمه الله.
والصواب: ما ذهب إليه جمهور العلماء من تقييد ذلك بقيد "خوف الضرر.
والمقصود بالضرر هنا: واحد من أمور
أولًا: زيادة المرض.
ثانيًا: تأخر البُرْء.
ثالثًا: الهلاك.
وثمة وصف رابع: وهو وجود المشقة، ولو لم يخف زيادةً، ولا تأخر بُرْء، ولا هلاك، لكن وجود المشقة.
فهذه أربعة أوصاف تدخل في الضرر الذي ذكر المؤلف رحمه الله قيدًا للمرض.
إذًا القيود أو الأوصاف التي يُبين بها معنى الضرر في قوله (يخاف الضرر) أربعة:
- خوف الهلاك.
- خوف زيادة المرض.
- تأخر البرء.
- وجود المشقة في الصوم، ولو لم يكن هناك واحد من الثلاثة المتقدمة.
والآية واضحة في الدلالة على هذا الحكم.
قوله -رحمه الله-: (ويُباح لحاضر).
بعد أن بيَّن الرخصة في الفطر، هنا انظر ماذا قال؟ قال: (يُسن لمسافر ولمريضٍ)، فبين أنه يُسن له الفطر في هاتين الحالين، فإن صام فيكون قد خالف السنة وهو مجزئ بالاتفاق، لا خلاف بين العلماء.
ونقصد بالاتفاق: المذاهب الفقهية المشهورة، ومن على القياس، وإلا من أوجب الفطر بالسفر بعضهم يرى أن ذلك لا يجزئه، والصواب: أنه يجزئه، وهذا قول شاذ، واحتجوا بأن الله فرض على المسافر عدةً من أيام أخر، ولم يفرض عليه الصيام في رمضان.
فقال:﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:184
ففرضه عدة من أيام أخر، فلو صام مع قيام الأوصاف التي تُبيح له الفطر: فإنه لا يجزئه؛ لأن فرضه عدة من أيام أُخر، وليس فرضه صيام الأداء في رمضان.
والصواب: ما عليه الجمهور.