الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمد وعلى آله، وأصحابه، أجمعين.
أمَّا بعد:
ننتقل إلى باب الآنية:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المؤلف - غفر الله له ولشيخنا وللحاضرين وجميع المسلمين -:باب الآنية: (وجميع الأواني مباحة، إلا آنية الذهب والفضة، وما فيه شيء منهما، إلا اليسير من الفضة للحاجة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ»).
مناسبة باب الآنية لما قبله:
الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، أجمعين. جرى عمل الفقهاء - رحمهم الله - على أن يعطف على باب المياه ما يتعلق بالآنية؛ ولذلك جاء المؤلف هنا بالكلام عن المسائل المتعلقة بالأواني، والعلة في ذلك أو المناسبة بين البابين أن الأواني هي الأوعية والظروف التي يكون فيها الماء، فاحتاج بعد الحديث عن الماء وأقسامه أن يبين أحكام الأواني التي هي ظروف وأوعية الماء الذي يوضع فيها، وأثر ذلك على طهارتها.
قوله رحمه الله: (وجميع الأواني) الأواني جمع آنية، والإناء هو: الوعاء والظرف الذي يحفظ فيه الماء أو غيره.
قوله رحمه الله: (وجميع الأواني مباحة) أي: أن جميع الظروف والأوعية التي يوضع فيها الماء يجوز استعمالها في الطهارة وغيرها إلا ما جاء النهي عنه، والمقصود بالإباحة هنا إباحة استعمالها واقتنائها؛ لأن الإباحة تتعلق بأمرين: بالاقتناء وبالاستعمال فقوله رحمه الله: (مباحة) أي: مباحة الاقتناء ومباحة الاستعمال، ودليل ذلك هو الأصل الذي تقدم في الباب السابق حيث قال: (الأصل في الأشياء الطهارة والإباحة) فإذا قيل في إناء من الأواني: إنه لا يجوز اقتناؤه، أو لا يجوز استعماله في الطهارة؛ فلا بد من إقامة ماذا؟ لا بد من إقامة الدليل على التحريم وعدم الجواز، وإلا فالأصل الجواز والإباحة.
وهذا الحكم في قوله: (وجميع الأواني مباحة) يشمل كل الأواني من أي مادة تكونت سواء كانت الأواني من حجارة، أو من معادن، أو من خشب، أو من مصنوعات مختلطة، أو من كائن ما كانت؛ فلا يمنع شيء من الأواني من أي شيء كان إلا ما قام الدليل عليه، ولذلك بعد أن قدم بهذه المقدمة:
انتقل المؤلف لبيان الاستثناء فقال: (إلا آنية الذهب، والفضة) فإنها غير مباحة؛ غير مباحة الاقتناء، وغير مباحة الاستعمال؛ لأن الإباحة التي تقدمت هي متعلقة بالأمرين؛ اقتناء، واستعمال؛ فقوله: (إلا آنية) استثناء مما تقدم من إباحة الاقتناء والاستعمال (إلا آنية الذهب والفضة) أي: الآنية المصنوعة من الذهب، والفضة؛ فآنية الذهب هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: آنية ذهبية، فصفة هذه الأواني أنها من ذهب أو من باب إضافة الشيء إلى أصله، ومعدنه؛ فآنية الذهب هي الآنية المتخذة من الذهب، بغضِّ النظر عن نوع الذهب أو عياره أو لونه؛ لأن الذهب ألوان؛ أبيض وأحمر، فكل ما يسمى ذهبًا إذا اتخذت منه آنية فإنه لا يجوز استعمالها، وكذلك الفضة.
والدليل سيأتي في كلام المصنف رحمه الله قال: (وما فيه شيء منهما) أي: ما فيه شيء من الذهب وما فيه شيء من الفضة، فلا فرق في الاستثناء والتحريم بين ما كان خالصًا من ذهب أو فضة؛ أو إناء فيه شيء من الذهب والفضة، فكله لا يجوز، ولا فرق في الاستثناء بين أن يكون ذلك للذكور أو للإناث؛ فإن آنية الذهب والفضة محرمة على الذكور والإناث لعدم ورود التخصيص.
وقوله رحمه الله: (وما فيه شيء منهما) ما فيه شيء منهما يكون على صور وأنواع؛ فمنه ما هو مموه بالذهب والفضة، ومنه ما هو مضبب بالذهب والفضة، ومنه ما هو مطعَّم أي مدخل فيه، أو مكفت فيه ذهب وفضة؛ لذلك لا فرق بين هذه الأوجه كلها فكل ما فيه شيء من الذهب والفضة سواء كان مموهًا، أو مضببًا، أو مطليًّا، أو مطعمًا، أو مكفتًا؛ فإنه لا يجوز استعماله, والدليل على ذلك ما ذكره في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة».
استثنى المصنف رحمه الله من آنية الذهب والفضة: (إلا اليسير من الفضة)، وهذا استثناء من الفضة فقط، لا من الذهب؛ فالذهب لا يحل منه شيء بالكلية في الآنية، إنما الاستثناء في الفضة؛ قال: (إلا اليسير من الفضة للحاجة)؛ أي: يجوز أن يكون، فالإناء الذي يُقتنى أو يستعمل فيه شيء من الفضة إذا كان ذلك للحاجة؛ والحاجة هنا المقصود صورة الحاجة لا تعين الفضة لدفع الحاجة، مثال ذلك: الإناء الذي انشعب وانكسر فإنه يجوز أن يسد ذلك الشعب أو ذلك الكسر بالفضة، ولو كان هناك ما يسد الشعب ويصلح الثلم من غير الفضة فإنه يجوز استعمال الفضة في هذا الإناء, ويجوز اقتناؤه واستعماله في الطهارة؛ ولذلك قوله رحمه الله: (للحاجة) المقصود بالحاجة هنا صورة الحاجة لا تعين الفضة.
ودليل هذا الاستثناء «أن النبي صلى الله عليه وسلم انكسر إناء له فاستعمل في كسر الشعب سلسلة من فضة»، فاستدل العلماء رحمهم الله على جواز استعمال الفضة في سد الشعاب وإصلاح الثلم الذي يمكن أن يكون في الإناء، وهذا معنى قوله رحمه الله: (إلا اليسير من الفضة للحاجة)، ولم يذكر المؤلف غير هذا الشرط خلافًا لما ذكره الفقهاء من شروط أخرى أطالوا في تعدادها للفضة الجائزة في الإناء إذا كانت لسد شعب أو إصلاح كسر.
واستدل المصنف لهذا الحديث وهو في الصحيحين: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» ووجه الدلالة النهي وأنها آنية الكفار في الدنيا, وأنها مما اختص الله تعالى بها المؤمنين في الآخرة، هذا ما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب.
(يستحب إذا دخل الخلاء: أن يقدم رجله اليسرى، ويقول: «بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث»، وإذا خرج منه قدم رجله اليمنى، وقال: «غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني».
ويعتمد في جلوسه على رجله اليسرى وينصب اليمنى، ويستتر بحائط أو غيره، ويبعد إن كان في الفضاء.
ولا يحل له أن يقضي حاجته في طريق، أو محل جلوس الناس، أو تحت الأشجار المثمرة، أو في محل يؤذي به الناس.
ولا يستقبل القبلة أو يستدبرها حال قضاء حاجته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا».
فإذا قضى حاجته استجمر بثلاثة أحجار ونحوها، تنقي المحل، ثم استنجى بالماء، ويكفي الاقتصار على أحدهما، ولا يستجمر بالروث والعظام، كما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كل ما له حرمة).
قوله رحمه الله: (باب الاستنجاء) مناسبة هذا الباب لما قبله أنه بعد فراغه من الكلام على أقسام المياه وعلى الآنية التي هي ظروف المياه وأوعيتها، انتقل إلى أول أنواع الطهارة ومفتاحها وهو إزالة أثر الخارج من السبيلين، فقوله رحمه الله: (باب الاستنجاء وآداب قضاء الحاجة) ذكره هنا لأنه مقدمة الطهارة, وقد ذكر جماعة من الفقهاء أنه شرط من شروطها؛ فلا تحصل الطهارة إلا بإزالة الخبث الذي نَتُجَ عن الغائط، وإتيان الحاجة.
معنى الاستنجاء لغةً واصطلاحًا:
وقوله رحمه الله: (باب الاستنجاء) الاستنجاء إزالة النجو، وهو العذرة, وأكثر ما يستعمل في إزالتها الماء, ولذلك قال: (باب الاستنجاء) مع أنه يتحدث في هذا الباب عن الاستنجاء وعن الاستجمار, لكن ذكر الاستنجاء لأنه الأعلى في إزالة أثر الخارج من السبيلين.
والاستنجاء في الاصطلاح: استعمال الماء في إزالة أثر الخارج من السبيلين أو أحدهما، ولكن يطلق الاستنجاء ويشمل الاستجمار، ويطلق الاستجمار ويشمل الاستنجاء في الأحكام، لكن عند ذكر الاسمين يكون الاستنجاء مما يخص الماء, والاستجمار مما يخص الحجارة.
قوله رحمه الله: (وآداب قضاء الحاجة) آداب: جمع أدب، وهو ما يتزين به الإنسان من الأقوال والأعمال، فالآداب هي ما يزين الإنسان ويجمله قولًا أو عملًا؛ والآداب لا تختص بابًا من الأبواب؛ بل الآداب تدخل الأبواب كلها، فكل عمل له آداب؛ أي كل عمل له ما يزينه ويجمله.
وقوله رحمه الله: (آداب قضاء الحاجة) أي: ما ينبغي أن يراعيه من أتى حاجته قولًا أو عملًا, ولذلك سيذكر في هذه الآداب جملةً من الآداب القولية, والآداب العملية, وهي أيضًا أفعالٌ وتروك من حيث أنواع الآداب, منها ما هو فعل، ومنها ما هو ترك، وهي أيضًا من حيث الحكم تختلف, منها ما هو واجب, ومنها ما هو مستحب، فالآداب لا يفهم من إطلاقها أنها مستحبات, بل منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب.
والمقصود بقضاء الحاجة: آداب التخلي سواء كان ذلك ببول، أو غائط.
ابتدأ المصنف رحمه الله هذه الآداب بذكر ما يستحب عند دخول مكان قضاء الحاجة فقال: (يستحب إذا دخل الخلاء)؛ والخلاء هنا هو ما يخلو فيه الإنسان لقضاء حاجته، سواء كان ذلك في بناء كدورات المياه والمراحيض المعدَّة، أو كان ذلك في فضاء، وذلك في موضع قضاء الحاجة، فما ذكره من استحباب تقديم رجله اليسرى لا فرق فيه بين أن يكون الخلاء بناءً أو في فضاء، ولذلك قال: (يستحب إذا دخل الخلاء) فإن كان بناءً يقدم رجله اليسرى عند دخول الخلاء؛ عند دخول المكان المخصص لقضاء الحاجة، وإن كان خلاء ليس هناك بناء يدخله فمتى يقدم رجله اليسرى؟ يقدم رجله اليسرى إذا بلغ الموضع الذي سيقضي حاجته فيه، أن يقدم رجله اليسرى، ودليل ذلك عموم قول عائشة رضي الله عنها في وصف هدي النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِى شَأْنِهِ كُلِّهِ» وهذا أخذ منه العلماء أن اليمين تقدم في كل محبوب ومقصود, وأن اليسرى تقدم في كل ما عدا ذلك.
يستحب أن يقدم رجله اليسرى (ويقول: بسم الله) أي: ويستحب أن يقول عند دخوله الخلاء: بسم الله, وهذا من الآداب القولية، وقول بسم الله: أي أدخل مستعينًا باسم الله كما تقدم في البسملة أنه يقدَّر لها فعلٌ أو اسمٌ مناسب لحال القائل, وقد جاءت مشروعية قول بسم الله فيما رواه سعيد بن منصور من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخلتم الخلاءَ فقولوا بسمِ اللهِ»
ويستدل له أيضًا بما في المسند والسنن من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَتْرُ مَا بَيْنَ أَعْيُنِ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ أَحَدُهُمُ الْخَلاَءَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ»
ثم قال المصنف رحمه الله: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) ودليل هذا ما جاء في الصحيحين، البخاري ومسلم، من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث». وقوله: «اللهم إني أعوذ بك». أي: أحتمي وألتجئ وأعتصم بك من الخبث والخبائث، والخبث بتسكين الباء المراد به الشر، والخبائث هم أهله وأصحابه؛ وهذا المعنى أوسع، فيكون استعاذةً من الشر وأهله. وقيل: الخبث جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة، فيكون استعاذةً بالله من ذكران الجن وإناثهم، وهذا القول الثاني. والأقرب أن الخبث بتسكين الباء بمعنى الشر، والخبائث: أهله. أي: أعوذ بالله من الشر وأهله. وهذا أوسع في المعنى، ومعلوم أنه إذا كان أوسع في المعنى فهو أرجح؛ لأنه كلما كان المعنى واسعًا شاملًا لمعانٍ كثيرة كان أولى بالتقديم من قَصْره على بعض صورة ما يندرج في المعنى العام.
قوله رحمه الله: (وإذا خرج منه) أي: من آداب قضاء الحاجة أنه إذا خرج منه قدَّم اليمنى, خلافًا للدخول؛ لما تقدم من عموم حديث عائشة في وصف هدي النبي صلَّى الله عليه وسلم.
قوله رحمه الله: (وقال: غفرانك ) أي: وقال عند خروجه: غفرانك؛ أي: أسألك مغفرتك، فقول: غفرانك؛ أي: أسألك مغفرتك وعفوك وتجاوزك وصفحك، فالمغفرة دائرة على معنيين على الستر والتجاوز، فكل من سأل المغفرة بأي لفظ كان سؤال المغفرة؛ فهو يسأل الله شيئين؛ الأمر الأول: يسأله الستر، والأمر الثاني: يسأله التجاوز والصفح، فقولك عندما تخرج: غفرانك؛ أي يا رب استرني وتجاوز عني. هذا معنى قولك: غفرانك، عند الخروج من الخلاء.
وقد جاء ذلك فيما رواه أصحاب السنن من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من حاجته قال: «غفرانك».
قوله رحمه الله: (الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) أي: مما يسن قوله من الآداب عند الخروج من محل قضاء الحاجة حمد الله تعالى على ما تيسر من إذهاب الأذى والمعافاة, وقد ورد هذا القول عن نوح - عليه السلام - أنه كان إذا خرج من الأذى قال: «الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في منفعته وأذهب عني أذاه»، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا دخل الخلاء قال: «بسم الله الحافظ»، وإذا خرج قال: «يا لها من نعمة لو يعلم العباد لشكروه عليها».
وقد جاء هذا الحديث: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» من طريق أنس رضي الله عنه، لكنه بإسناد ضعيف؛ ولذلك ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه ليس من السنن، ولكن لو قاله بناءً على العمل بالحديث الضعيف؛ فلا حرج.
والذي يظهر أن أصح ما ثبت من الأذكار عند الخروج من الخلاء هو ما جاء في حديث عائشة من قول: «غفرانك»، وما عداه فإنه لا إسناد له مستقيم, وفيما صح من السنة كفاية وغنية.
قوله رحمه الله: (ويعتمد في جلوسه على رجله اليسرى وينصب اليمنى) أي: من آداب قضاء الحاجة أن ينصب رجله اليمنى إذا جلس، ويتكئ ويعتمد على رجله اليسرى؛ إكرامًا لليمنى، فينصبها إكرامًا لها، ولأن ذلك أيسر في خروج الخارج، هكذا علَّل بعض الفقهاء، وهكذا علل المصنف رحمه الله في بعض كلامه.
وهل لذلك أصل في السنة؟
الجواب: نعم جاء ذلك فيما رواه سراقة بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: «علمنا النبي صلى الله عليه وسلم في الخلاء أن نقعد على اليسرى وننصب اليمنى»، جاء ذلك عند البيهقي في سننه بإسناد فيه مقال.
ولهذا ليس لهذا الاستحباب أصل صحيح في السنة, وإنما ذكر ذلك الفقهاء لكون هذه الصفة من نصب اليمين والاتكاء على اليسار أسهل في إخراج الغائط؛ كما ذكر بعضهم هذا التعليل.
قوله رحمه الله: (ويستتر بحائط أو غيره) أي: من آداب قضاء الحاجة أن يستتر من يقضي حاجته بساتر، أو بحائط, وهذا فيما إذا كان في فضاء، أما إذا كان في مكان معدٍّ فإن الاستتار يحصل بإغلاق الباب؛ الذي يستر به عورته عن الناس؛ فقوله رحمه الله: (يستتر بحائط، أو غيره) أي: ما يحصل به الستر، وذلك حالة التخلي.
وأصل ذلك في السنة ما رواه أبو داود بإسناد لا بأس به, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ومن أتى الغائط فليستتر».
وقد قال عبد الله بن جعفر في وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ، هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْل», وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على الاستتار، وكان يحب أن يستتر بهذا النوع من الستار لما يتحقق به من التغطية التامة الكاملة عن أعين الناس.
وقوله: (ويستتر بحائط أو غيره) يشمل كل ما يحصل به الستر عن أعين الناس سواء كان ذلك بحائل أرضي، أو كان بحائل وضعي يضعه الإنسان، أو بغير ذلك مما يحصل به الستر, وذلك أن كشف العورات حال قضاء الحاجة مما ورد فيه الوعيد فيما رواه جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه» والتواري هو أمر بالاستتار. وكذلك ما جاء في حديث أبي هريرة: «من أتى الغائط فليستتر».
قوله رحمه الله: (ويبعد إن كان في الفضاء) أي: ويضم إلى الاستتار بحائط في الفضاء: البعد في المكان، وهذا نوع من الستر؛ لأن البعد في المكان يأمن فيه الإنسان من أن يؤذي الناس بصوت أو رائحة، وهذه هي العلة التي من أجلها استحبَّ أهل العلم أن يبعد في حال قضاء الحاجة؛ بأن يكون في مكان بعيد إذا كان في الفضاء لئلا يُسمع منه صوت, أو لئلا توجد منه رائحة, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب لقضاء حاجته أبعد؛ فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه «إذا ذهب المذهب» يعني إذا ذهب لقضاء الحاجة «أبعد», وقد «كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد», فهذا يضم إلى ما تقدم من الستر الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ونادى به في قوله: «إذا أتى أحدكم الغائط فليستتر». فيكون الاستتار حال الغائط نوعان:
- استتار عن البصر بوجود حائل يمنع رؤية الناس.
- واستتار عن السمع؛ حيث يبعد عن الناس حال قضاء الحاجة إذا كان في الفضاء.
أما إذا كان في بناءٍ معدٍّ فلا يتأتى البعد؛ لأنه سيأتي إلى مكان معدٍّ لقضاء الحاجة.
قوله رحمه الله: (ولا يحل له أن يقضي حاجته في طريق، أو محل جلوس الناس، أو تحت الأشجار المثمرة، أو في محل يؤذي به الناس) هذا من آداب قضاء الحاجة؛ أن يبعد في قضاء الحاجة عن هذه المواطن, فقد جمع المصنف رحمه الله هنا المواضع التي يمنع من قضاء الحاجة فيها، وقد ذكرها رحمه الله تفصيلًا، ثم ذكر المعنى الجامع فقال رحمه الله: (ولا يحل) أي: لا يجوز (أن يقضي حاجته) سواء كان ببول أو غائط (في طريق) (طريق) نكرة في سياق النفي فيعم كل طريق, والمقصود به الطريق المطروق، أما إذا كان طريقًا مهجورًا ولا يستعمله الناس فهذا يختلف فيه الحكم عن الطريق المطروق الذي لا زال الناس يستعملونه.
ودليل النهي عن قضاء الحاجة في ممر الناس؛ ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقُوا اللاعِنَيْنِ. قَالُوا: وَمَا اللاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ في ظِلِّهِمْ»
وقد جاء أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ: «اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» فقوله صلى الله عليه وسلم: «وقارعة الطريق»؛ يدل على أن النهي عن قضاء الحاجة في طريق الناس الذي يتأذى به الناس, أما إذا كان بعيدًا عن طريق الناس يمنةً أو يسرةً فإنه لا يُمنع من ذلك ولا يُنهى عنه.
قوله رحمه الله: (أو محل جلوس الناس) أي: مكان جلوسهم, وأماكن جلوس الناس مختلفة؛ قد تكون تحت ظل، أو تكون في مكان شمس، أو تكون في مكان معدٍّ، فكل ذلك يدخل في قوله: (أو محل جلوس الناس) فكل من تخلى في محل جلوس الناس سواء كان في ظل أو في غير ظل فإنه يدخل فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم, وهو من موارد اللعن ومن أسبابه.
قوله رحمه الله: (أو تحت الأشجار المثمرة)؛ والمقصود بالمثمرة هنا الثمرة التي يقصدها الناس، أما إذا كان ثمرًا لا يقصده الناس، ولا ينتفع الناس بظله فإنه لا ينهى عن قضاء الحاجة فيه؛ ولذلك جاء في وصف قضاء حاجة النبي صلى الله عليه وسلم أن «أحب ما استتر به حائط أو حائش نخل» أي: ما يكون من الستار الذي يستر به النخل, وقد يكون فيه نخل.
قوله رحمه الله: (أو في محل يؤذي به الناس) هذا رابع ما ذكره المصنف رحمه الله من المواطن التي نهي عن قضاء الحاجة فيها, وهذا الموطن أو الموضع الرابع الذي ذكره ليس له دليل يخصه, إنما هو مستفاد من مجمل ما جاءت به النصوص, أما المواضع السابقة فكلها قد جاء بها النص, وأما قوله: (أو في محل يؤذي به الناس) فهذا إلحاقٌ لما لم يرد به النص بالنص، فالنص جاء عن النهي عن قضاء الحاجة في الطريق، جاء النهي عن قضاء الحاجة في الموارد؛ أي الأماكن التي يَرِدُها الناس، جاء النهي عن قضاء الحاجة في الظل، جاء النهي عن قضاء الحاجة تحت الشجرة المثمرة، جاء النهي عن قضاء الحاجة في ضفة نهرٍ جارٍ, فاستفيد من هذه المنهيات المعنى المشترك والعلة في النهي؛ وهي الأماكن التي يَرِدُها الناس فيتأذى الناس بقضاء الحاجة فيها، فعُلم بهذا أن جميع المواضع التي نهي عن قضاء الحاجة فيها تشترك في أنها أماكن يتأذى الناس بقضاء الحاجة فيها.
قوله رحمه الله: (ولا يستقبل القبلة أو يستدبرها حال قضاء الحاجة) هذا من آداب قضاء الحاجة ألا يجعل القبلة بين يديه قبالة وجهه، ولا خلف ظهره، هذا من الآداب، لكن المصنف رحمه الله نبَّه إلى أن هذا الأدب حال قضاء الحاجة أي حال خروج الغائط وحال التبول، أما في غير هذه الحال كحال الاستنجاء, والاستجمار, فإنه لا يكره له ولا ينهى عن استقبال القبلة, أو استدبارها، وإنما النهي عن استقبال القبلة واستدبارها, حال قضاء الحاجة, واستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا»؛ أي: توجهوا إلى جهة المشرق، أو المغرب, وقوله: «شرقوا أو غربوا» هذا محمول على ما إذا كان التشريق والتغريب لا تكون القبلة فيه لا مستقبَلةً ولا مستدبَرةً, أما إذا كانت تُستقبل أو تُستدبر حال التشريق والتغريب, كمن هم في شرق الكعبة وغربها فإنه في هذا الحال يُنهى عن التشريق والتغريب, وإنما يشمل أو يجنب؛ أي: يتوجه إلى جهة الشمال، أو جهة الجنوب
قوله رحمه الله: (فإذا قضى حاجته استجمر بثلاثة أحجار ونحوها) ضابط ما يستعمل من الحجارة ونحوها أن يكون مما تنقي المحل؛ أي: محل الخارج، وتنقيه أي: تزيل ما علق به من قذر، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار, وأنه صلى الله عليه وسلم ذهب لقضاء حاجته فأمر عبد الله بن مسعود أن يأتيه بثلاثة أحجار, فدل ذلك على أن أقل ما تستعمل فيه الحجارة لإزالة أثر الخارج من السبيلين ثلاثة أحجار، وكذلك نحوها مما يقوم مقام الحجارة ينبغي ألا يكون أقل من ثلاثة أحجار، فهل يزيد عن الثلاثة؟ نعم إذا اقتضى ذلك مقتضٍ؛ بأن كان محتاجًا إلى أكثر من ثلاثة أحجار لإزالة أثر الخارج.
الحكمة من تقديم الاستجمار على الاستنجاء:
قوله رحمه الله: (ثم استنجى بالماء) يعطف على استعمال الحجارة استعمال الماء, فالاستنجاء هو استعمال الماء في إزالة أثر الخارج من السبيلين, وما الحكمة في تقديم الاستجمار؛ أي في تقديم استعمال الحجارة على استعمال الماء؟ الحكمة ألا يباشر النجاسة بيديه فإنه إذا استعمل الماء أولًا كان مباشرًا للنجاسة بيديه, فكان استعمال الحجارة أولى صيانةً له عن مباشرة النجاسة بيده، هذا معنى.
المعنى الثاني: أنه إذا استعمل الحجارة بعد الماء كان ذلك تتريبًا للمكان وليس تنقية له؛ لأنه سيعلق به من أثر الحجارة ما يؤذيه, بخلاف ما إذا استعمل الماء بعد الحجارة, فإنه يزيل أثر الحجارة وما تبقى من أثر النجاسة, إن كان قد بقي.
وقوله رحمه الله: (ثم استنجى بالماء) وفهم منه أن من الآداب الجمع بين الاستجمار, والاستنجاء, وهذا ما جاء به الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد, وأصحاب السنن, أن أهل قباء أثنى الله تعالى عليهم في الطهور، فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: «نجمع في الاستنجاء بين الأحجار, والماء»، وهذا وإن كان إسناده ضعيفًا, ولكن الفقهاء رحمهم الله استدلوا به على مشروعية وسنية الجمع بين الحجارة والماء, والمقصود بثناء الله تعالى على أهل قباء في قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}.
قوله رحمه الله: (ويكفي الاقتصار على أحدهما) أي: يحصل الواجب بالاقتصار وبالاكتفاء إما بالاستنجاء أو بالاستجمار.
النهي عن الاستجمار بالروث والعظام:
قوله رحمه الله: (ولا يستجمر بالروث والعظام؛ كما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم), أي: لا يستعمل في إزالة أثر الخارج روثًا, ولا عظامًا, كما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، والألف واللام في الروث للاستغراق, فيشمل روث ما يؤكل لحمه، وروث ما لا يؤكل لحمه، أما ما لا يؤكل لحمه لنجاسته, وأما ما يؤكل لحمه فروثه طاهر, لكنه طعام لدواب الجن، والعظام كذلك فإنه ينهى عن استعمالها؛ لأنها لا تطهِّر؛ إذ إنها ملساء لا يحصل بها إزالة الأذى, ولو قدر أنه يزول بها الأذى فالنهي عنها لكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنها طعام إخواننا من الجن.
منع الاستجمار بكل ما له حرمة:
قوله رحمه الله: (وكذلك كل ما له حرمة) أي: لا يجوز استعمال ما له حرمه في إزالة أثر الخارج من السبيلين, كالكتب المحترمة، ولا يقصد بالكتب المحترمة هنا ما فيه ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن هذا لا يجوز؛ لأن في ذلك امتهانًا لها, لكن ما فيه كلام محترم, ولو كان من غير ذكر الله وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم, فإنه لا يستعمل؛ لما في ذلك من إهدار النعمة.
وكذلك الأطعمة فإن لها حرمة فلا تستعمل في إزالة أثر الخارج من السبيلين، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الطعام للإنس أو لدوابهم, والدليل على هذا أنه إذا كان طعام الجن وطعام دواب الجن مما مُنع الإنسان من استعماله صيانةً له من التخريب، فطعام دواب الإنس من باب أولى.