الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبيّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فهذا تعليق على (شرح مختصر المقنع) الموسوم بــ (الروض المربع شرح زاد المستقنع) وهو كتاب جليل ألفه العلامة الشيخ منصور بن يونس البهوتي، المتوفى سنة إحدى وخمسين وألف للهجرة معجم المؤلفين (13/22) ، وهذا الكتاب من مهمات الكتب التي يعتني بها المتعلمون على فقه الإمام أحمد، فإن كتاب (الروض المربع) له مرتبة رفيعة ومنزلة عالية عند متأخري الحنابلة ؛ إذ إنه عني بشرح مختصر من أهم المختصرات في فقه الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وتولى ذلك شيخ عصره الذي له سبق وتميز في العلم بمذهب الإمام أحمد وكلام أصحابه، فهو عالم متبحر وله عناية فائقة بمؤلفات الحنابلة وكتبهم، وقد كتب كتبًا عديدة، هي من عيون المؤلفات في مذهب الإمام أحمد –رحمه الله- فله حاشية على المنتهى معروفة بــ (إرشاد أولي النهى لدقائق المنتهى)، وله (شرح على الإقناع لطالب الانتفاع) وهو (كشاف القناع عن الإقناع) وله شروحات عديدة منها هذا الكتاب المميز.
وافتتح المؤلف –رحمه الله- هذا الكتاب بحمد الله والثناء عليه، كما جرى على ذلك عمل أهل العلم، فابتدأ أولًا بالبسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) ـ والبسملة يأتي الكلام عليها في شرحه لكلام الحجاوي رحمه الله ـ ثم حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد) وهذه كلمة يؤتى بها للفصل بين المقدمة والمقصود من الحديث.
قال –رحمه الله-: (فهذا شرح لطيف) المشار إليه هو كتاب (الروض المربع)، ولا تخلو الإشارة من حالين:
الحال الأولى: أن يكون ذلك قبل التصنيف أي في بدايته، فيكون إشارة إلى ما في الذهن.
الحال الثانية: أن يكون إشارة إلى موجود فيما إذا كان ذلك بعد فراغه من الكتاب، سطّر هذه المقدمة.
قال –رحمه الله-: (شرح لطيف) ومقصوده باللطيف الإيجاز، فهو شرح موجز غير مطول ولا مبسوط يوصل الطالب إلى دقيق المعاني وخفيها بطريق يسير سهل ورفق، هذا معنى قوله –رحمه الله-: (فهذا شرح لطيف).
قوله: (على مختصر المقنع للشيخ الإمام العلامة والعمدة القدوة ....إلى آخر ما ذكر)، بين الكتاب المشروح وهو (مختصر المقنع)، فـ (الروض المربع) شرح لمختصر المقنع، وهو المشهور بكتاب (زاد المستقنع في اختصار المقنع)، وسمى بهذا الاسم ؛ لأنه مشتهر به، وأما اسم الزاد فإنه لم يكن مشهورًا بهذا الاسم في زمانه، ولذلك سماه بما هو معروف به من كونه مختصرًا للمقنع، فقال: (شرحٌ لطيفٌ على مختصر المقنع)، وبهذا يتبين أن هذا الكتاب الروض المربع شرح لمختصر المقنع.
ومن المهم أن نعرف أن المقنع هو أحد المؤلفات الجليلة في مذهب الإمام أحمد، ألفه أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه المقدسي المتوفى سنة عشرين وستمائةسير أعلام النبلاء (16/149).، وهو من أهم مؤلفاته وأيضًا هو في سلم التدرج في المرتبة الثانية من مؤلفات ابن قدامه في مذهب الإمام أحمد –رحمه الله- أنه كَتَبَ أربعة كُتُبٍ، وهي سلم متتابع متدرج في ترقي الإنسان في دراسة الفقه وفهمه، أول ذلك (العمدة) ثم (المقنع) ثم (الكافي) ثم (المغني)، وقد أشار إلى هذه الكتب الأربعة وأهميتها في فقه الحنابلة الشيخ يحيي الصرصري وهو من معاصري الموفق ابن قدامه ـ رحمه الله ـ قال ذيل طبقات الحنابلة (3/295).:
كفى الخلق بالكافي وأقنع طالبًا.... بمقنع فقه عن كتاب مطول
وأغنى بمغني فقه من كان باحثاً.... وعمدته من يعتمدها يحصل.
فكتاب المقنع في سلم مؤلفات ابن قدامه يأتي في المرتبة الثانية، وهو كتاب عظيم النفع وواضح العبارة، ومتوسط الحجم وغزير العلوم والمعارف، وحسن الترتيب والتفريع، وقد جمع تقاسيم وتناويع مهمة، واشتمل على ترتيب وتبويب بديع، ولهذا اهتم به الحجاوي –رحمه الله-لأهميته وعلو منزلته في فقه الإمام أحمد، فاختصر ذلك في هذا السفر الجليل الموسوم بـــ (مختصر المقنع)، والمشهور به اسم (زاد المستقنع في اختصار المقنع) والمختصر عرّف به المؤلف –رحمه الله-تعريفاً بين به أهمية الكتاب، فإن الكتاب تعلم منزلته وتعرف مكانته بمؤلفه.
ولذلك قال –رحمه الله-: (للشيخ الإمام العلامة والعمدة القدوة الفهامة هو شرف الدين أبو النجا موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى بن سالم المقدسي الحجاوي ثم الصالح الدمشقي تغمده الله برحمته وأباحه بحبوحة جنته) والحجاوي من علماء القرن العاشر، فإنه توفي سنة ثمان وستين وتسعمائة، وهو من العلماء المتميزين في المؤلفات المختصرة، فإن له هذا الكتاب المختصر مختصر المقنع، وله مختصر آخر له منزلة عالية في مذهب الحنابلة وهو (الإقناع لطالب الانتفاع) الذي شرحه البهوتي في كتاب كشاف القناع على متن الإقناع، وقد بين المؤلف –رحمه الله- عمله في هذا الكتاب. شذرات الذهب (10/ 472)، ومعجم المؤلفين (13/34).
فقال: يبين حقائقه ويوضح معانيه ودقائقه مع ضم قيود يتعين التنبيه عليها وفوائد يحتاج إليها إلى آخر ما ذكر، هذا بيان لعمل المؤلف في هذا الشرح، وقد أحسن بهذا البيان ليعلم ما الذي سيسير عليه في شرحه لهذا المختصر، ويمكن إجمال ذلك في نقاط ثلاثة:
النقطة الأولى: في بيان عمل المؤلف الشارح أنه يبين حقائق زاد المستقنع، والحقائق جمع حقيقة وهي كنه الشيء ويوضح معانيه ودقائقه، ويوضح المعاني، وهذا يشمل بيان ما يحتاج إلى بيان، ويشير إلى ما تضمنه من الدقائق، وهي ما خفي من المعاني التي تحتاج إلى بذل جهد في الوصول إليها، وإلى فهم ثاقب ونظر عميق للوصول إليها، وهذا غاية المقصود في كل شرح، فإن شرح أي كلام لا يتم إلا بهذه الأمور، تبيين الحقائق وتوضيح المعاني، وتوضيح الدقائق، والخفايا التي تضمنها الكلام مما يدرك بمفهومه.
(وزاد المستقنع) من الكتب التي حوت علمًا جمًا كثيرًا، فقد حوت على مسائل فقهية كثيرة، حتى قيل: إنه من أوسع الكتب احتواء لمسائل الفقه في مذهب الإمام أحمد –رحمه الله-فهو متن مشبع من مسائل الفقه التي ذكرها فقهاء الحنابلة ـ رحمهم الله ـ وسلك في ذلك الإشارة بالمنطوق، والإشارة بالمفهوم، وقد قيل: إنه تضمن أكثر من ستة آلاف مسألة، ثلاثة آلاف منها بالمنطوق، والبقية بالمفهوم، وقد يكون هذا محل نقاش من حيث حصر ذلك بهذا العدد.
والنقطة الثانية: التي بين فيها المؤلف –رحمه الله-عمله قال: (مع ضم قيود يتعين التنبيه عليها) فبين المؤلف –رحمه الله-أنه اشتغل بتقييد ما أطلقه صاحب المختصر، فثمة عبارات ومسائل ذكرت تحتاج إلى تقييد بشرط أو بقيد يميزها ويوضحها ويبينها، ولذلك قال: (يتعين التنبيه عليها) لأن بقائها غير مقيدة، قد يفهم منه غير المراد، وأيضًا لا يتم المعنى في بعض المسائل إلا بتلك القيود التي ذكرها الشارح رحمه الله.
والنقطة الثالثة: في بيان عمل المؤلف في هذا الشرح أشار إليها بقوله: (وفوائد يحتاج إليها) أي أنه أضاف مسائل وفوائد إلى هذا المختصر تدعو الحاجة إليها، ليتم بذلك الإحاطة بمهمات مسائل الفقه على مذهب الإمام أحمد –رحمه الله-هذا ما ذكره –رحمه الله-في بيان ما قام به، إلا أنه لم يذكر الطريقة التي سلكها –رحمه الله-في تحقيق هذه الأغراض وهذه المقاصد في هذا الشرح، وهي بيان الحقائق وتوضيح المعاني والدقائق وضم القيود يتعين التنبيه إليها وذكر فوائد يحتاج إليها.
لم يذكر المنهج الذي سلكه لتحقيق ذلك، وقد جرى فيه على نحو كتاب آخر له وهو (كشاف القناع على متن الإقناع) وقد بين في ذلك الكتاب الطريق الذي سلكه وهو مطابق لما جرى عليه عمله في هذا الشرح ؛ حيث قال في مقدمة الكشاف: (ومزجته بشرحه حتى صار كالشيء الواحد لا يميز بينهما إلا صاحب بصر أو بصيرة لحل ما قد يكون من التراكيب العسيرة) كشاف القناع (1/10).وهذا ما جرى عليه في هذا الشرح، فإنه مزج ما بينه من المعاني وما وضحه من الحقائق والدقائق، وما ذكره من القيود التي يتعين ذكرها، وما أضافه من الفوائد مزجه بالشرح حتى صار كالشيء الواحد، وبلغ مبلغًا من المزج أنه لا يتمكن من التمييز بين الشرح والأصل إلا من له معرفة وإدراك وبصر وبصيرة، كما ذكر –رحمه الله- والسبب في هذا أنه أراد بهذا أن يسهل على الطالب التحصيل، وألا يتشتت بالنظر في كتابين، وإنما جاء له ككتاب واحد، أو جعله على نحو كتاب واحد ؛ لتحصيل المطلوب وبلوغ المأمول المراد.
بعد هذا قال –رحمه الله-: (مع العجز وعدم الأهلية لسلوك تلك المسالك، لكن ضرورة كونه لم يشرح اقتضت ذلك والله المسئول بفضله أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم وزلفى لديه في جنات النعيم المقيم آمين يا رب العالمين).
ختم المؤلف هذه المقدمة المختصرة لشرحه بالإقرار بالعجز والضعف، وعدم بلوغ الأهلية لتحقيق هذا الغرض الذي ينشده في هذا الشرح، وهذا إقرار بالعجز، والإقرار بالعجز مما يستمطر به عطاء الله، ويدرك به عونه وفتحه، فإن الإنسان مهما بلغ من العلم، فلن يخرج عن قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:85] وكل ما يفتح على الإنسان من العلوم، فهو من فضل الله ومنّه وكرمه، وإذا كان هذا المقال من هذا العالم المعروف بفقهه وتبحره في مذهب الإمام أحمد، فينبغي لطالب العلم أن يعرف قدره وأن يقر بعجزه وعظيم افتقاره إلى ربه في تحصيل مأموله وإدراك مطلوبه في العلوم وفي سائر الأمور.
ثم بعد إقراره بما ذكر من العجز وعدم الأهلية، ذكر أن الحامل له على ذلك الضرورة، ذلك أن هذا الكتاب على أهميته وتميزه، وهو مختصر المقنع لم يشرح، ويعتبر (الروض المربع) أول شرحه، وهو أهم شروح هذا السفر الجليل، فليس ثمة شرح يساميه أو يقترب منه في الدقة والإتقان والتبحر والبيان.
بعد ذلك ختم بدعاء الله ـ تعالى ـ وسؤاله، فقال: (والله المسئول بفضله أن ينفع به) أي بهذا الشرح (كما نفع بأصله وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وزلفى لديه في جنات النعيم).
والمؤمن إنما يدرك ما يدرك من الفضل بالافتقار والدعاء، وبذل الوسع في تحصيل ما يرضي الله ـ تعالى ـ عنه، ومن صدق الله صدقه جل في علاه.
قوله –رحمه الله-: (بسم الله الرحمن الرحيم) أي ابتدأ بكل اسم للذات الأقدس).
البسملة جملة مفيدة تستفتح بها المكتوبات، ويجري في الاستفتاح بها جملة من الخيرات.
والمؤلف –رحمه الله-أشار إلى أن قوله: (بسم الله) يتعلق بفعل، وهو ما أشار إليه في قوله: أي ابتدأ بسم الله، وهذا أحد قولي أهل العلم –رحمه الله-في متعلق البسملة ؛ فلهم في متعلق البسملة قولان قطر الندى وبل الصدى (265)، وشرح المقدمة المحسبة لطاهر بن أحمد بن بابشاذ (1/242).: منهم من قال: إن متعلقها فعل، ومنهم من قال: إن متعلقها اسم وعلى ضوء هذا الخلاف وقع اختلافهم في البسملة هل هي جملة اسمية أم جملة فعلية؟
وقد جاء القرآن بهذين النوعين من المتعلقات، فجاء تعليق البسملة باسم في قول الله ـ تعالى ــ: ﴿بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا﴾ [هود: 41] وجاء تعليقها بفعل في قول الله ـ تعالى ـ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1] والأمر في ذلك واسع.
وقوله –رحمه الله-: (بكل اسم للذات الأقدس) أي أن البداءة والتبرك بالبداءة بسم الله ـ تعالى ـ شامل لكل أسمائه ـ جل في علاه ـ فاسم مفرد مضاف يعم كل أسمائه عز وجل.
وقوله –رحمه الله-: (بكل اسم للذات الأقدس) أي لله –عز وجل-فإن اسم الله –عز وجل-علم على الذات، فإن اسم الله ـ تعالى ـ دال على ذاته وكمال صفاته جل في علاه.
وقوله: (المسمى بهذا الاسم الأنفس) وهو اسم الله ـ جل في علاه ـ الموصوف بكمال الإنعام وما دونه، وهو إشارة إلى ما تضمنه هذا الاسم العظيم من صفات الجلال، فإن اسم الله ـ جل في علاه ـ قيل: هو الاسم الأعظم الذي ترجع إليه معاني أسمائه الحسنى وصفاته الحسنى جل في علاه.
وقوله –رحمه الله-: (أو بإرادة ذلك أؤلِّفُ مستعينًا) بيان مناسبة ذكر البسملة في أول المكتوبات، وأن ذلك للاستعانة بالله –عز وجل-مستعينًا باسمه ـ جل في علاه ـ وأسمائه-سبحانه وبحمده-فيما قصدت من تأليف، أو ملابسًا أي مصاحبًا اسم الله ـ تعالى ـ وأسمائه الحسنى في هذا التأليف على وجه التبرك، فإن اسمه مبارك ـ جل في علاه ـ كما قال ـ تعالى ـ: ﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:78].
قوله –رحمه الله-: (وفي إيثار هذين الوصفين) يقصد ما تضمنه اسم الرحمن الرحيم (المفيدين للمبالغة في الرحمة)، فالرحمن دال على عظيم الرحمة المتصف بها ـ جل في علاه ـ والرحيم دال على عظيم رحمته ـ جل في علاه ـ في أفعاله.
قال –رحمه الله-: في علة ذكر هذين الاسمين في البسملة قال: (إشارة لسبقها) من حيث ملاصقتها لاسم الذات وغلبتها من حيث تكرارها على أضدادها وعدم انقطاعها، فكل هذا مما أفاده اختصاص هذين الاسمين بالذكر مع اسم الله –عز وجل-في البسملة.
قال –رحمه الله-: (وقدم الرحمن ؛ لأنه علم في قول أو كالعلم حيث أنه لا يوصف به غيرهتعالى) هذا من جهة اللفظ. تفسير النسفي (1/28).
وأما من جهة المعنى: فــ(الرحمن) وصف يتعلق بالذات، فقدم ما يتعلق بالذات على ما يتعلق بالغير، قال: (لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها يعني منتهاها، وذلك لا يصدق على غيره).
وعطف عليه الرحيم، وهو مما يجوز إطلاقه على غيره ـ جل في علاه ـ فإنه لا يختص به –سبحانه وتعالى- من حيث اللفظ إذ يجوز أن يسمى به غيره –سبحانه وتعالى- لأنه يرجع إلى اللطف والتوفيق، ولأنه يتعلق بالفعل، فالرحيم وصف متعلق بفعله سبحانه وبحمده. التسهيل لعلوم التنزيل (1/49).