الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
يقول الشيخ منصور البهوتي –رحمه الله-في كتاب (الروض المربع):
وهذا أول الأبواب الفقهية التي تناول من خلالها الشيخ منصور –رحمه الله-مسائل الأحكام الفقهية العملية.
قال: ((كتاب) هو من المصادر السيالة التي توجد شيئًا فشيئًا).
وقوله –رحمه الله-: (المصادر السيالة) لا يعرف في كلام أهل اللغة، وإنما هو اصطلاح عند جماعة من المتأخرين، وأرادوا به ما ذكره –رحمه الله-من كون المصدر لمعن يوجد تدريجًا، فلا يوجد مرة واحدة، إنما يوجد شيئًا فشيئًا، فكتاب فعل وهو من المصادر التي تدل على معنى شيء يحصل شيئًا فشيئًا المصباح المنير (2/524).
قال: (يقال كتب كتابًا وكتبا وكتابة) هذا الاشتقاق اللغوي لهذه المادة، (وسمى المكتوب به مجاز) أي يسمى المكتوب بالكتاب مجازًا أي ليس على وجه الحقيقة، إنما من باب التجوز.
وقوله: (ومعناه لغة: الجمع من تكتّب بنو فلان إذا اجتمعوا، ومنه قيل لجماعة الخيل كتيبة، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف، والمراد به هنا المكتوب، أي هذا مكتوب جامع لمسائلالطهارة) هذا كله مما يتعلق بتعريف اللغوي لهذه المادة معجم الصحاح تاج اللغة مادة (كتب) (1/208).
وخلاصته: أن (كتاب) من المصادر السيالة، وأن معناه الجمع، ومناسبة وصف المكتوب بهذا الوصف أنه يجمع الكلمات وحروف.
وقوله: (هذا مكتوب بيان) أن قوله كتاب خبر مبتدأ مقدر هذا كتاب، والمعنى (هذا مكتوب جامع لمسائل تتعلق بالطهارة).
قال –رحمه الله-: (الطهارة مما يوجبها ويتطهر به ونحو ذلك)، هذا بيان المسائل التي تضمنها هذا الكتاب في كتاب الطهارة، مكتوب جامع لمسائل تتعلق بما يوجب الطهارة وما يتطهر به، وما إلى ذلك من مسائل المتعلقة بهذا.
قال –رحمه الله-: (ومعناها لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار، مصدر طهُر يطهُر بضم الهاء فيهما، وأما طهَر بفتح الهاء فمصدره كحكم حكمًا) المصباح المنير مادة (طهر) (2/379).
هذا بيان معنى الطهارة لغة: وهي من حيث المعنى تدور على النظافة والنزاهة والتخلي من المستقذرات.
وأما من حيث الاشتقاق: فنبه إلى أن الطهارة مصدر مشتق من طهُر بضم عينه وهي الهاء، لا من طهارة مفتوحة العين، فالطهارة مصدر من طهُر يطهُر لا من طهَر يطهَر، والمادة في كل الأحوال تدور على معنى واحد، وإن كان الاشتقاق مختلفًا ينظر نهاية الغريب والأثر (3/147).
ثم قال –رحمه الله-: (وفي الاصطلاح ما ذكره بقوله: (وهي ارتفاع الحدث) أي زوال الوصف القائم بالبدن المانع من الصلاة ونحوها، (وما في معناه) أي معنى ارتفاع الحدث كالحاصل بغسل الميت والوضوء والغسل المستحبين، وما زاد على المرة الأولى في الوضوء ونحوه، وغسل يد القائم من نوم ليل ونحو ذلك) هذا بيان لمعنى الطهارة في الاصطلاح.
وطرائق الفقهاء ـ رحمهم الله ـ وأهل العلم في التعريفات مختلفة، وكلها تنشد مقصدًا واحدًا وهو تجلية المعرّف، وتوضيحه وبيانه، وقد يكون ذلك ببيان حقيقته، أو بيان بعض أحكامه، أو يكون ببيان أثره، أو يكون بالتمثيل له، فكل هذه طرائق مسلوكة في التعريفات والمؤلف –رحمه الله-هنا ذكر في الطهارة أثرها، حيث قال: (وهي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث) وهذا تعريف للطهارة بما ينتج عنها، وما تثمره فهو تعريف للشيء بأثره أو بثمرته دقائق أولي النهى (1/13), وكشف المخدرات (1/41).
فقال: ((وما في معناه) يعني ما في معنى ارتفاع الحدث)، ومثل له بجملة من الأمثلة، قال: (كالحاصل بغسل الميت)، فغسل الميت ليس رفعًا لحدث ؛ لأن الموت لا يزول بالغسل وإنما هو في معناه رفع الحدث.
قال: (كالوضوء والغسل المستحبين)، فإن الحدث غير قائم والوضوء والغسل مندوب إليه فكان في معنى الحدث.
قال: (وغسل يد القائم من نوم ليل ونحو ذلك)، فإن غسل يد القائم من نوم ليل لا يرفع بذلك حدث، لكنه مما أمر به المغني (1/41)- ، وسيأتي بيانه وتفصيله.
قال –رحمه الله-: (أو بالتيمم عن وضوء أو غسل)، هذا المثال الأخير الذي ذكره لبيان قوله: ((وما في معناه).... أو بالتيمم عن وضوء أو غسل)، وذلك أن التيمم لا يرتفع به الحدث على ما ذهب إليه الحنابلة، وإنما يستباح به ما يستباح بالوضوء فهو مبيح لا رافع الكافي في فقه الإمام أحمد (1/121)، وكشف القناع (1/175) كما سيأتي بيانه وتقريره.
قال –رحمه الله-: (وزوال الخبث) أي: والطهارة أيضًا تطلق على زوال الخبث، والزوال هو الانتقال والإذهاب للشيء ينظر لسان العرب (11/314) .
وقوله –رحمه الله-: (وزوال الخبث) أي: زوال النجاسة أو زوال حكمها بالاستجمار أو بالتيمم في الجملة على ما يأتي في بابه، فعرف المؤلف الخبث بالنجاسة، فزوال الخبث هو زوال النجاسة، وهذا زوال عين النجاسة فهو إذهاب لها حقيقة، ويدخل فيه أيضًا إذهاب النجاسة حكمًا، ولذا قال: (أو حكمها بالاستجمار) فإن الاستجمار لا يزيل النجاسة بالكلية، بل يبقى من النجاسة ما لا يزيله إلا الماء.
قال –رحمه الله-: (فالطهارة ما ينشأ عن التطهير) عاد لبيان أن هذا التعريف حقيقة هو تعريف للطهارة بأثرها وما ينتج عنها.
قال: (وربما أطلقت على الفعل كالوضوء والغسل) أي: ومن موارد استعمال الطهارة إطلاقها على الفعل، أي على فعل الطهارة، كالوضوء والغسل، وهذا هو الأصل، فإن التطهر يطلق على فعل ذلك بما يحصل به الطهارة من وضوء أو غسل.
بعد ذلك قال –رحمه الله-: (المياه باعتبار ما تتنوع إليه في الشرع ثلاثة)، هذه المسألة هي أم مسائل الباب، وهي أهم مسائله ؛ ولذلك بدأ بذكرها قبل غيرها من المسائل، فسائر مسائل الباب متفرعة عن هذا التقسيم الذي ذكره رحمه الله.
قوله –رحمه الله-: (المياه) جمع ماء وأصل ماء موه وتصغيره مويه، ويجمع الماء أيضًا على الأمواه لسان العرب (13/543) .
فقوله: (المياه ثلاثة) أي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وهذا التقسيم بين المؤلف –رحمه الله-الاعتبار الذي جرى عليه، فقال: (باعتبار ما تتنوع إليه من الشرع) يعني باعتبار ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية، وهذا التقسيم الذي ذكره –رحمه الله-للمياه وأنها ثلاثة أقسام، هو ما جرى عليه عمل أكثر أهل العلم كشف القناع (1/24)، ومختصر الإنصاف (7).
فالذي عليه العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام، وثمة رواية ثانية عن الإمام أحمد –رحمه الله-أن الماء ينقسم إلى قسمين نبدأ أولًا بما ذكره المؤلف –رحمه الله-ثم نذكر ما يترجح فيما يتصل بتقسيم المياه ينظر الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (1/33).
هذا هو القسم الأول، بين اسمه ومعناه، فالاسم طهور وهو فعول بمعنى مفعل أي مطهر، وبيّنه بما نقل عن ثعلب في قوله: (الطاهر في ذاته المطهر لغيره) مقاييس اللغة (3/428) ، فهو في ذاته طاهر وأثره متعد إلى غيره بإكسابه الطهارة ؛ ولذا قال: (المطهر لغيره) والتطهير هنا يشمل النوعين رفع الحدث، وإزالة الخبث.
فقوله: (المطهر لغيره) في رفع حدث أو في إزالة خبث، واستدل لهذا القسم وما ذكره من معناه، فقال: قال الله تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾[الأنفال: 11] فالمقصود بالآية الماء الطهور ؛ لأن الله ـ تعالى ـ امتن على عباده بإنزال هذا الماء من السماء لحصول هذا المقصد والغرض وهو التطهير به التعليق الكبير (2/54) .
ثم عرفه المؤلف –رحمه الله-ببيان حكمه، قال: (لا يرفع الحدث غيره، والحدث ليس نجاسة، بل معنى يقوم بالبدن يمنع الصلاة ونحوها، والطاهر ضد الحدث والنجس، (ولا يزيل النجس الطارئ) على محل طاهر فهو النجاسة الحكمية (غيره) أي غير الماء الطهور)، هذا ما ذكره الشارح –رحمه الله-في تعريف الطهور شرعاً.
قوله –رحمه الله-: (يرفع الحدث غيره) هذا بيان لمعنى الماء الطهور، ثم عرف الحدث وقد تقدم في كلامه الإشارة إليه.
قال: (والحدث ليس نجاسة) يعني ليس شيئًا عينيًا ؛ بل معنى يقوم بالبدن يمنع الصلاة ونحوها، ولما ذكر أن الحدث ليس نجاسة بين أن اسم الطاهر يقابل الحدث ويقابل النجس، فالطاهر هو السالم من الحدث، وهو السالم من النجس أيضًا.
وقوله –رحمه الله-: (ولا يزيل النجس الطارئ على محل طاهر، فهو النجاسة الحكمية غيره) أي غير الماء الطهور هذا استكمال لبيان الطهور، فهو الذي لا يزيل النجس الطارئ غيره.
والنوع الثاني: النجاسة الحكمية: وهي الطارئة على محل طاهر، وهذه نجاسة تصيب طاهرًا فتطرأ عليه، وتسمى الحكمية ؛ لأن ثبوت النجاسة فيما أصابته من الأشياء حكمياً، وليس عينيًا يمكن إزالته ورفعه وتطهيره.
قوله –رحمه الله-: (والتيمم مبيح لا رافع وكذا الاستجمار)، هذا يشبه التعقيب على التعريف، فإن التيمم يبيح الصلاة والاستجمار يتحقق به المطلوب في إزالة أثر الخارج من السبيلين مع كون التيمم لا يرتفع به الحدث، والاستجمار لا يزيل النجاسة بالكلية، بل يبقى أثر لا يزيله إلا الماء شرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/349) .
وقال –رحمه الله-: ((وهو الطهور) أي الباقي على خلقته)، هذا تعريف للطهور بحقيقته وصفته، فالماء الطهور هو الباقي على خلقته أي صفته التي خلق عليها، فهو باق على نحو ما خلقه الله ـ تعالى ـ عليه لم يطرأ عليه شيء من التغيير الفروع وتصحيح الفروع (1/55)، والإقناع في الإمام أحمد (1/3) ، لكن البقاء على أصل الخلقة على حالين؛ أشار إليهما بقوله: (إما حقيقة بأن يبقى على ما وجد عليه من برودة أو حرارة أو ملوحة ونحوها أو حكمًا كالمتغير بمكث أو طحلب ونحوه مما يأتي ذكره)، فأفاد –رحمه الله-أن البقاء على أصل الخلقة له صورتان:
الصورة الأولى: البقاء الحقيقي: هو أن يبقى الماء على نحو ما خلقه الله دون تغير، سواء في برودته أو في ملوحته أو غير ذلك من الصفات التي خلق عليها الماء.
والصورة الثانية: البقاء الحكمي: وهو أن يطرأ تغير على الماء ؛ لكنه لا يؤثر، فهو في حكم الباقي على خلقته، وذكر له أمثلة قال: (كالمتغير بمكث) أي المتغير بطول بقاء أو طحلب أو شيء يكون فيه من نبات ونحوه، فهذا لا يخرجه عن كونه طهورًا.
وبعد أن ذكر –رحمه الله-ما يتعلق بالماء الطهور ببيان حكمه، وبيان وصفه وتعريفه وحده، انتقل إلى بيان ما يطرأ على الماء الطهور من تغير وأثر ذلك التغير.