الطهارة من الروض المربع

من وحتى
فقرات المساق مناقشات حول المساق إشعارات تعريف بالمساق البث المباشر الاختبار العام الشهادات

عداد المشاهدات : 49

التاريخ : 2025-10-19 10:13:44


 الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.

يقول المصنف –رحمه الله- في كتاب الطهارة في باب المياه: (وإن بلغ) الماء (قلتين) تثنية قلة: وهي اسم لكل ما ارتفع وعلا جمهرة اللغة (2/976)، ومختار الصحاح (259) ، المراد هنا الجرة الكبيرة من قلال هجر، وهي قرية كانت قرب المدينة، (وهو الكثير) اصطلاحًا) الجامع لعلوم الإمام أحمد (5/180)، والمغني (1/19).

بعد أن فرغ المؤلف –رحمه الله-من ذكر ما يطرأ على الماء من التغيرات، وأثر تلك التغيرات في طهوريته، انتقل إلى ذكر ضابط الماء القليل والكثير، وذكر ذلك بين يدي التغير بالنجاسة ؛ لأن التغير بالنجاسة له تفصيل من جهة أثر النجاسة في الماء قلة وكثرة.

فيقول –رحمه الله-: (وإن بلغ الماء قلتين) ثم عرف القلة بقوله: (وهي اسم لكل ما ارتفع وعلا) والقلة بضم القاف (والمراد هنا: الجرة الكبيرة من قلال هجر)، وهو وعاء معروف في زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقلال هجر كذلك كانت معروفة زمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسميت بذلك ؛ لأن البعير يقلها أي يحملها، (وهجر قرية كانت قرب المدينة)، وليس المقصود بهجر هنا الأحساء أو البحرين.

قال –رحمه الله-: (وهو الكثير) أي إذا بلغ الماء قلتين أي قدر قلتين، فإنه كثير أي يصدق عليه وصف الكثير.

وقوله: (اصطلاحًا) أي في اصطلاح الشارح، ومستند ذلك ما جاء في السنن من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52) وفي لفظ «لم ينجس» أخرجه ابن ماجه (517)، وأحمد (4803)، والدارمي (731) وقد صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.

وقوله –رحمه الله-: (هو الكثير) استناد إلى هذا الحديث ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرق بين القلتين وما دونهما، فتفريق النبي ــ صلى الله عليه وسلم ـ بين ما كان قلتين فصاعدًا، وما دون ذلك دليل على أن هذا القدر حد يفصل بين ما تؤثر فيه النجاسة إذا وقعت فيه، وما لا تؤثر فيه، وبين تحديده بالقلتين يدل على أن ما دونهما ينجس، ولو كان يستوي الحكم في القلتين وما دونهما لم يكن للتحديد فائدة.

وقد ذكر بعض أهل العلم في جوابه عن هذا التقسيم عدة اعتراضات منها:

الاعتراض الأول: أن الحديث ضعيف.

الجواب: أن هذا الطعن غير مسلم، فأكثر أهل العلم على أن الحديث حسن يحتج به.

الاعتراض الثاني: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم ينص على بلوغ القلتين هو الحد الفاصل الذي يفرق فيه بين القليل والكثير، وإنما هو حد لما يغلب على الظن تأثره بالنجاسة إذا أصابته، فإن الكثرة والقلة من الأسماء الإضافية التي تتفاوت وتختلف، فيرجع في معرفتها إلى العرف، والعرف مختلف باختلاف الأماكن واختلاف وفرة الماء وقلته.

ثم شرع المؤلف ـ رحمه الله ـ في بيان قياس القلتين وما قيل في ذلك، فقال: (وهما) أي القلتان (خمسمائة رطل) بكسر الراء وفتحها) والرطل تسعون مثقال والمثقال دينار والدينار أربعة جرامات وربع المغني (1/19), والشرح الكبير على المقنع (1/120).

قال ـ رحمه الله ـ: (خمسمائة رطل بفتح الراء وفتحها عراقي تقريبًا).

قوله (تقريبًا) بينه الشارح بقوله: (فلا يضر نقص يسير كرطل ورطلين وهما أربعمائة وستة وأربعون رطلًا وثلاثة أسباع رطل مصري ومائة وسبع رطل دمشقي وتسعة وثمانون وسبع رطل حلبي وثمانون رطلًا وسبعان ونصف سبع رطل قدسي وما وافقه، فالرطل العراقي تسعون مثقال سبع قدسي وثمن سبعه، وسبع الحلبي وربع سبعه، وسبع الدمشقي ونصف سبعه، ونصف المصري وربعه سبعه)، كل هذه المعايير والمقاييس لا يعرفها الناس اليوم واجتهد الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في تقدير القلة بمقاييس عصرهم، والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن تلك التحديثات لا تستند إلى أصل يوثق به، وإنما هي تقريبية فالماء الكثير ما بلغ قلتين وقدر القلتين بالصاع ثلاثة وتسعون صاعًا وثلاثة أرباع أي ثلاثة أمداد هذا ما ذكره في شرح العمدة وهو تقدير مقارب غاية المنتهى (1/54), وشرح منتهى الإرادات (1/24), ومطالب أولي النهى (1/45).

  

ثم قال –رحمه الله-: (فخالطته النجاسة) بعد أن حدد الكثير انتقل إلى ذكر أثر النجاسة الواقعة في الماء الكثير.

وقوله: (فخالطته) أي مازجته يعني وقعت فيه، قال: (فخطالته نجاسة قليلة أو كثير (غير بول الآدمي أو عذريته المائعة) والجامدة إذا ذابت (فلم تغيره) فطهور) هذا بيان لأثر وقوع النجاسة في الماء الكثير، ومفاد قوله –رحمه الله-: أن الماء الكثير إذا وقعت فيه النجاسة لا يخلو من حالين:

الحالة الأولى: أن تغيره النجاسة، فهو نجس، وهذا محل اتفاق لا اختلاف فيه المغني (1/28).

والحالة الثانية: ألا تغيره النجاسة، وهو على قسمين:

القسم الأول: أن تكون النجاسة غير بول آدمي أو عذريته، فهذا لا يحمل الخبث ولا تؤثر فيه النجاسة الواقعة فيه ما دام أنها لم تغيره ؛ لكثرته، ودليل ذلك قوله –صلى الله عليه وسلم-في الحديث «إذا كان الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52).

والقسم الثاني: إذا كانت النجاسة الواقعة فيه بول الآدمي أو عذريته المائعة والجامدة إذا ذابت فهذا ينجس مطلقًا، غيرته النجاسة الواقعة فيه أو لم تغيره، وسيأتي في كلام المصنف –رحمه الله-وجه استثناء بول الآدمي وعذريته من سائر النجاسات في كون وقوع شيء من بول الآدمي أو عذريته في الماء الكثير يفضي إلى النجاسة مطلقًا تغير أو لم يتغير المغني (1/32).

وقوله –رحمه الله-: (فطهور) أي باقي على طهوريته ؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان الماءُ قُلَّتَيْنِ لم يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» في رواية «لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» وهذا الحديث أصل في التفريق بين الماء القليل والماء الكثير، الماء الذي دون القلتين، والماء الذي بلغ قلتين وزاد، فإن جمهور العلماء من الحنفية بدائع الصنائع (1/71), والعناية شرح الهداية (1/73) وبعض المالكية بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/30)، والذخيرة للقرافي (1/173) والشافعية فتح العزيز للرافعي (1/205), والمجموع للنووي (1/116) ، والحنابلة يعتبرون تنجيس الماء بالقلة والكثرة، وإن لم تتغير صفاته، فالماء إذا وقعت فيه نجاسة لم تغيره، فإن كان قليلاً فهو نجس، وإن كان كثيراً فهو طاهر، إلا أنهم اختلفوا في حد القليل والكثير، كما تقدم في ذكر ضابط الكثرة والقلة المغني (1/19).

يقول المصنف –رحمه الله-: (قال الحاكم: على شرط الشيخين وصححه الطحاوي) وهذا إشارة إلى ثبوته، ودفع من قال بضعفه وإسقاط الاحتجاج به، قال: (حديثُ: «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» أخرجه أبو داود (66)، والترمذي (66)، والنسائي (326)، وأحمد (11275) وحديث «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» أخرجه ابن ماجه (521)، والطبراني (8/123) (7503)، والبيهقي (1271)) أي الحكم المتقدم مستفاد من مجموع هذين الحديثين ؛ فإن حديث أبي سعيد «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» وكذلك حديث أبي أمامه «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» عامًا في القليل والكثير، وحديث ابن عمر فرق بين القليل والكثير فقال: «إِذَا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ» أخرجه ابن ماجه (517)، وأحمد (4803)، والدارمي (731) ، وفي روايةٍ: «لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ» أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52)  فالجمع بينهما أن يقال ما دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة نقلته عن الطهورية، أي رفعت طهوريته وثبت له حكم النجاسة، وإذا بلغ قلتين فما فوق، فإنه يكون طاهرًا إذا لم تغير النجاسة شيء من أوصافه لونه أو طعمه أو رائحته.

وقال بعض أهل العلم: إن حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ لا يصلح أن يكون مستندًا في التفريق بين القليل والكثير في إثبات النجاسة للماء الذي لم يبلغ قلتين إذا وقعت فيه النجاسة ولو لم تغيره، فإن دلالته على التفريق بين القليل والكثير إنما هي بالمفهوم، فدلالة حديث ابن عمر على التفريق بين القليل والكثير في إثبات النجاسة في القليل دون الكثير فيما دون القلتين دون ما بلغ قلتين وأكثر، إنما هو من باب دلالة المفهوم، ويعارضه منطوق حديث أبي سعيد «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» ، وعليه فلا يقال ما ذكره المؤلف في قوله يحمل على المقيد السابق، بل يقال إن حديث أبي سعيد دلالته دلالة منطوق، وهي مقدمة على دلالة المفهوم في قول كثير من الأصوليين التحصيل من المحصول (1/396)، ونهاية الوصول في دراية الأصول (8/3565).

وأجيب: عن هذا الاعتراض وهذه المناقشة: بأن حديث أبي سعيد «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»  يدل بمنطوقه على أن الماء لا ينجسه شيء عند عدم التغير سواء كان قلتين أم لا، وحديث القلتين يدل بمفهومه على أن الماء القليل ينجس وإن لم يتغير، فيكون هذا المفهوم مخصصًا لمنطوق حديث أبي سعيد المغني (1/21).

ونوقش الاستدلال بحديث ابن عمر الدال على التفريق بين القليل والكثير فيما إذا وقعت نجاسة في قليل ولم تغيره:

بأن قوله: "لم يحمل الخبث" معناه أن الماء إذا بلغ قلتين يضعف على حمل النجاسة أي لا يقبل النجاسة، فلا تغير أحد أوصافه، وذلك لكونه يدفع الخبث عن نفسه، فيكون فيه إشارة إلى أن التنجيس بسبب التغير، والشيء ينعدم بانعدام سببه، وبالتالي ما دون القلتين إذا لم يتغير يكون قد انعدم السبب الموجب للتنجيس، فلا يثبت حكم التنجيس، بل يبقى الماء طهورًا.

وما نوقش به أيضًا الحديث والاستدلال من التفريق بين القليل والكثير، أنه لو كان المقصود بالحديث أن ما دون القلتين من الماء إذا أصابته نجاسة ينجس مطلقًا، لكان ما بلغ القلتين إذا أصابته نجاسة غيرت إحدى صفاته لم ينجس مطلقًا عملًا بظاهر الحديث وعمومه، وهذا مخالف للإجماع في كون أن الماء إذا بلغ قلتين وأصابته نجاسة، فإنه لا ينجس إلا بتغير إحدى صفاته بالنجاسة، ونوقش بغير ذلك من المناقشات.

ولهذا كان الأقرب في هذه المسألة أنه لا فرق بين قليل الماء وكثيره، بين ما بلغ قلتين وما لم يبلغ قلتين، وبهذا يتبين أن قوله: (يحملان على المقيد السابق) محل نظر، بل الماء إذا تغير بالنجاسة قليلًا كان أم كثيرًا فإنه ينجس، وإذا لم يتغير بالنجاسة قليلًا كان أو كثيرًا، فإنه لا ينجس، ويكون فائدة حديث "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52) التنبيه إلى العناية بالماء إذا كان دون القلتين، حيث أنه يغلب على الظن أن يتغير، فيكون في ذلك لفتًا للعناية بما كان دون القلتين إذا أصابته نجاسة، فيحترز ويحتاط فيه أكثر مما بلغ القلتين، فإن تغيره بعيد غالبًا الشرح الكبير (1/96ـ 97)، والمغني (1/20)، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/130).

وقوله –رحمه الله-: (وإنما خصت القلتان بقلال هجر لوروده في بعض ألفاظ الحديث، ولأنها كانت مشهورة الصفة معلومة المقدار. قال ابن جريج: رأيت قلال هجر فرأيت القلة تسع قربتين وشيئًا)، وهذا أولى من التحديدات السابقة بالأرطال ونحوها المغني (1/19), وشرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/123).

قال: (والقربة: مائة رطل بالعراقي والاحتياط أن يجعل الشيء نصفًا، فكانت القلتين خمسمائة بالعراقي).

قوله –رحمه الله-: (أو خالطه البول والعذرة) من آدمي ويشق نزحه كمصانع طريق مكة فطهور)، هذا ثاني ما ذكره المؤلف –رحمه الله-من أقسام الماء التي وقعت في نجاسة ؛ لكنها لم تسلبه الطهورية.

القسم الأول: إذا بلغ قلتين فخالطته نجاسة غير بول آدمي وعذريته فلم تغيره.

والقسم الثاني: ما خالطه البول والعذرة ولكنه بلغ مبلغًا من الكثرة يشق نزحه كماء مصانع طريق مكة، قال" (فطهور) لكن قال الشارح: (ما لم يتغير)، فإذا تغير فإنه ينجس.

وقد نقل عن الشارح –رحمه الله- فقال: (قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافًا).

إذًا هذا ثاني أقسام الماء الذي أصابته نجاسة ولم تؤثر فيه، لم تسلبه الطهورية.

وقوله –رحمه الله-: (مفهوم كلامه أن ما لا يشق نزحه ينجس ببول الآدمي أو عذريته المائعة أو الجامدة إذا ذابت ولو بلغ قلتين) المغني (1/30), والمحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد (1/2) وهذا مفهوم كلامه، هنا وأيضًا فيما تقدم من الاستثناء.

قال –رحمه الله-: (وهو قول أكثر المتقدمين والمتوسطين، قال في المبدع: ينجس على المذهب وإن لم يتغير) المبدع في شرح المقنع (1/40) وفهم من هذا أن بول الآدمي وعذريته المائعة إذا وقعت في ماء كثير للعلماء فيه قولان:

القول الأول ما فهم من كلام المؤلف –رحمه الله-: من أنه ينجس وهو قول أكثر المتقدمين والمتوسطين من الحنابلة وهو المذهب، وإن لم يكن هناك تغيير ببول الآدمي أو عذريته للماء الذي وقع فيه شرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/133), والفروع وتصحيح الفروع (1/84).

وقوله –رحمه الله-: (لحديث أبي هريرة يرفعه «لا يَبُولَنَّ أحَدُكُمْ في المَاءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» متفق عليه أخرجه البخاري (239)، و أخرجه مسلم (282)) استدلال لهذا التخصيص الذي ذكره في شأن بول الآدمي وعذريته، وهو نص في البول ؛ حيث قال: «لا يَبُولَنَّ»  ولم يذكر الغائط، لكن ما ثبت في البول يثبت في الغائط من باب أولى ؛ لأنه أغلظ وأشد.

وقوله –رحمه الله-: (وروى الخلال بإسناده أن علياً ـ رضي الله تعالى عنه ـ سئل عن صبي بال في بئر فأمرهم بنزحها. وعنه أن البول والعذرة كسائر النجاسات) المغني (1/30), والشرح الكبير (1/105) قبل أن ننتقل إلى القول الثاني نقف عند دلالة الحديث ومن أين أخذ ما ذكروا من تخصيص من أن بول الآدمي وعذريته إذا وقعت في ماء كثير نجسته.

وجه ذلك في الحديث: أن النبي –صلى الله عليه وسلم-نهى عن البول في الماء الدائم الذي لا يجري، ونهي النبي –صلى الله عليه وسلم-عن البول في الماء الدائم جاء عامًا يشمل قليله وكثيره، ويفيد أن الماء الدائم مطلقًا محتمل للنجاسة يقبلها إذ لو لم يكن البول ينجس ما أصابه ووقع فيه، لما نهى النبي –صلى الله عليه وسلم-عن البول فيه، هكذا قالوا إلا أن الاستدلال بهذا الحديث على هذا الحكم محل مناقشة، وذلك أن الأدلة دالة على التفريق بين القليل والكثير من الماء في كثير ما يقع فيه من النجاسات، ومن ذلك حديث «إذا كان الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ» أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والنسائي (52)  أي لا يقبله ولا يؤثر فيه، وأجيب على هذا بأن الحديث مخصص لحديث القلتين كما تقدم فيما ذكروا من أن حديث «إنَّ الماءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ» أخرجه أبو داود (67)، والترمذي (66)، والنسائي (326)  مقيد بحديث القلتين والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن حديث النهي عن البول في الماء الدائم، إذا سلم أنه يفيد تنجيس الماء الكثير، فلا بد من تخصيصه بدليل ما لا يمكن نزحه، فيقاس عليه ما بلغ القلتين أو يخص بخبر القلتين، فإن تخصيصه بخبر القلتين أولى من تخصيصه بالرأي والتحكم من غير دليل، ولأنه إذا تساوى الحديثان وجب العدول إلى القياس على سائر النجاسات، فلا فرق بين البول وغيره ويقال أيضًا إن نجاسة بول الآدمي لا تزيد على نجاسة بول الكلب، وهو لا ينجس ما بلغ قلتين إذا لم يتغير، فبول الآدمي أولى الشرح الكبير (1/26).

فلا دلالة في هذا الحديث على ما ذكروه من تنجيس الماء وسلب الطهورية منه قليلًا وكثيرًا ببول الآدمي وعذريته.

وأما القول الثاني: فأشار إليه –رحمه الله-بقوله: (وعنه: أن البول والعذرة كسائر النجاسات، فلا ينجس بهما ما بلغ قلتين إلا بالتغير، قال في التنقيح: اختاره أكثر المتأخرين وهو أظهر. انتهى لأن نجاسة بول الآدمي لا تزيد على نجاسة بول الكلب)، هذا القول أسعد دليلًا وأقوى حجة من القول الأول، ولهذا كان هو الراجح من هذين القولين وأن بول الآدمي وعذريته جامدة أو مائعة حكمها فيما يتعلق بأثرها على الماء كسائر النجاسات المغني (1/30), والكافي في فقه الإمام أحمد (1/31).  

  

وقوله –رحمه الله-: (ولا يرفع حدث رجل) وخنثى (طهور يسير) دون القلتين (خلت به) كخلوة نكاح (امرأة) مكلفة ولو كافرة (لطهارة كاملة عن حدث) لنهي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أن يتوضَّأَ الرَّجلُ بفَضلِ طَهور المرأةِ» أخرجه أبو داود (82)، والترمذي (64)، والنسائي (343)، وابن ماجه (373) رواه أبو داود وغيره، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان. قال أحمد في رواية أبي طالب: أكثر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون ذلك، وهو تعبدي) المغني (1/157), والشرح الكبير (1/22).

هذه المسألة مسألة أثر خلوة المرأة بالماء الطهور في طهارة.

قال –رحمه الله-: (ولا يرفع حدث رجل) فخرج بذلك ما عدا الرجل من صغير وامرأة.

قال: (وخنثى حتى يتبين طهور يسير) أي ماء طهور دون القلتين خلت به امرأة، فحكم على الماء بأنه طهور لم يفقد الطهورية بالخلوة، فهذا النوع من التغير تغير جزئي خاص، وهو أن الماء لا يصلح في طهارة الرجل دون غيره، فإنه طهور يصح استعماله في رفع الحدث وإزالة الخبث.

قال: في أوصاف الماء الذي إذا خلت به امرأة لا يرفع حدث الرجل عدة قيود:

القيد الأول: قال: (يسير) فلو كان يسيرًا لم يؤثر.

القيد الثاني: (خلت به كخلوة نكاح) والمقصود بخلوة النكاح أن تخلو به عن مشاهدة مميز.

وقيل: المقصود بالخلوة هو أن تنفرد به فتتوضأ به منفردة دون مشارك لها فيه، والذي جرى عليه المؤلف وهو المذهب أن الخلوة هنا المقصود بها أن تخلو بالماء عن مشاهدة مميز هذا القيد الثاني.

القيد الثالث: (امرأة مكلفة ولو كافرة)، والمكلفة هي الحرة البالغة العاقلة فلو خلت به صبية أو امرأة غير مكلفة كالمجنونة، فإن ذلك لا يؤثر.

قوله –رحمه الله-: (ولو كافرة) (لو) هنا إشارة إلى الخلاف، وهي تستعمل في كلام الفقهاء من الحنابلة أو غيرهم إما إشارة للخلاف، وإما لدفع توهم وإزالة التباس، وهي هنا إشارة إلى خلاف.

فقوله –رحمه الله-: (ولو كافرة) أي حتى لو كانت المرأة التي خلت بالماء كافرة، فإن خلوتها بالماء عن مشاهد تمنع تطهر الرجل به، وعلة ذلك قالوا: إن الكافر أولى بالتأثير على الماء فيما يتعلق بطهوريته من المرأة المسلمة، فجعلوا خلوة الكافرة بالماء، كخلوة المسلمة من باب قياس الأولى شرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/304), والمبدع في شرح المقنع (1/35).

وقوله –رحمه الله-: (لطهارة كاملة عن حدث) أي أن تخلو به لأجل هذا، وهذا في المسلمة، وأما الكافرة، فإنها لا يتصور منها طهارة شرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/304), والمبدع في شرح المقنع (1/35).

قوله –رحمه الله-: (لطهارة كاملة عن حدث) أي لرفع حدث وذكر الشارح الدليل لذلك بقوله: (لنهي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «أن يتوضَّأَ الرَّجلُ بفَضلِ طَهور المرأةِ» أخرجه أبو داود (82)، والترمذي (64)، والنسائي (343)، وابن ماجه (373)  رواه أبو داود وغيره، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان).

وقد استدل بهذا الحديث لما تقدم ذكره، وهو من مفردات مذهب الإمام أحمد –رحمه الله-ونوقش الاستدلال بهذا الحديث من عدة جهات:

الجهة الأولى: أن الحديث ضعيف، فقد ضعفه كثير من أهل العلم خلاصة الأحكام للنووي (1/200), والهداية في تخريخ أحاديث البداية (1/300).

والجهة الثانية: أن الآثار الصحاح وردت بالإباحة وعدم تأثير خلوة المرأة بالماء، ولو كان ذلك لطهارة، ففي صحيح الإمام مسلم من حديث ابن عباس قال: «كان النبي –صلى الله عليه وسلم-يغتسل بفضل وضوء ميمونة» ، وقالت ميمونة ـ رضي الله عنها ـ اغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي –صلى الله عليه وسلم-يغتسل فقلت إني قد اغتسلت منه فقال: «إن الماء ليس عليه جنابة» أخرجه ابن ماجه (370)، وأحمد (26802)  وجاء عن ابن عمر أنه قال: (إن كان الرجال والنساء في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم-يتوضؤون جميعًا) أخرجه البخاري (193)، وأبو داود (79)، والنسائي (71)، وابن ماجه (381)، وأحمد (5928). فكل هذه الآثار تدل على أنه ليس لاستعمال المرأة وخلوتها بالماء أثر من منع الرجل من التطهر بما خلت به، ويمكن أن يقال: إنه على تقدير صحت الأحاديث الواردة في نهي الرجل عن الوضوء بفضل طهور المرأة، فإن ذلك محمول على الكراهة لا على التحريم والإبطال شرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/301).

(قال أحمد في رواية أبو طالب: أكثر أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم-يقولون ذلك. وهو تعبدي) يعني ليس معقول المعنى شرح منتهى الإرادات (1/15), وشرح الزركشي على مختصر الخرقي (1/301).

قال –رحمه الله-: (وعلم مما تقدم أنه يزيل النجس مطلقاً) أي أن ما خلت به امرأة لطهارة على نحو ما ذكر من القيود (يزيل النجس مطلقا، وأنه يرفع حدث المرأة والصبي وأنه لا أثر لخلوتها بالتراب، ولا بالماء الكثير ولا بالقليل إذا كان عندها من يشاهدها، أو كانت صغيرة أو لم تستعمله في طهارة كاملة ولا لما خلت به لطهارة خبث)، وكل هذه الصور محل اتفاق بين أهل العلم شرح منتهى الإرادات (1/16)، ومطالب أولي النهى (1/28).

وقوله –رحمه الله-: (فإن لم يجد الرجل غير ما خلت به لطهارة الحدث استعمله ثم تيمم وجوباً) وهذا من باب الاحتياط والخروج من الخلاف، فيجمع بين طهارة الماء احتياطًا لقول من يقول بوجوب استعمال الماء، والتيمم احتياط كشاف القناع (1/37) لقول من يقول أن ما يصح استعمال هذا الماء ؛ لكون أن النبي –صلى الله عليه وسلم-نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة، والصواب ما ذهب إليه الجمهور من أن خلو المرأة بالماء لا أثر له على طهورية الماء، والله ـ تعالى ـ أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

  

  

اختبر تحصيلك

يجب تسجيل الدخول اولا لتتمكن من مشاهدة الاختبار التحصيلى

التعليقات


التعليق