إن الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
انتقل المؤلف –رحمه الله-إلى ثاني أنواع الآنية التي تطرق إلى حكمها في هذا الباب، هو أولًا قرر الإباحة في الآنية صنوفها وأنواعها استثنى من ذلك آنية الذهب والفضة والمضبب بهما.
ثم قال –رحمه الله-: في ثالث أنواع الآنية التي تكلم عنها في هذا الباب: ((وتباح آنية الكفار) إن لم تعلم نجاستها (ولو لم تحل ذبائحهم)) يقول: (وتباح) أي (تحل آنية الكفار) وهذا يشمل كل (آنية الكفار) مما استعملوه وصنعوه وكل ما يضاف إليهم، قال: (إن لم تعلم نجاستها) هذا قيد الإباحة اشترط في إباحة آنية الكفار ألا تعلم نجاستها المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد (1/7), والشرح الكبير (1/155)..
وآنية الكفار لها ثلاثة أحوال على ما ذكر المؤلف –رحمه الله-:
الحالة الأولى: أن تعلم نجاستها، فهذه لا يحل استعمالها.
والحالة الثانية: أن تعلم طهارتها، وهذه يباح استعمالها.
والحالة الثالثة: ألا تعلم نجاستها، بمعنى أن تجهل نجاستها.
فعدم العلم يشمل أنه ليس لديه ما يتبين به حقيقة طهارة الآنية، فهذه طاهرة ويباح استعمالها لأن الاستعمال فرع الطهارة.
ومما سبق يتبين أن آنية الكفار من حيث الاستعمال على قسمين:
ووجه الدلالة في الحديث ظاهرة حيث إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم- توضأ وأصحابه من مزادة المشركة، وهذا الجزء من كلام المؤلف –رحمه الله-يتعلق بالآنية وباب الطهارة. المجموع للنووي (1/261).
استطرد فقال: (وتباح ثيابهم) أي ثياب الكفار ولو وليت عوراتهم كالسراويل (إن جهل حالها) ولم تعلم نجاستها ؛ لأن الأصل الطهارة فلا تزويل بالشك) هذا ذكره المؤلف –رحمه الله-على وجه الاستطراد ؛ ولأنه قد تستعمل ثيابهم في الصلاة، فبين حكمها وأن حكم ثيابهم حكم آنيتهم. الممتع في شرح المقنع (1/115), والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (1/156).
قال: (لكن تكره الصلاة في ثياب المرضع والحائض والصبي ونحوهم) والكراهة تحتاج إلى دليل، واستدلوا لذلك بأن ثياب هؤلاء مظنة أن يصيبها شيء من القذر أو النجاسة، فالكراهة من باب الاحتياط ومن باب طلب الأكمل في الثياب التي يصلي فيها، فالله ـ تعالى ـ قد قال: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾[الأعراف: 31] وثياب هؤلاء في الغالب لا يتحقق بها المأمور في تطييب الثياب وتجويدها للصلاة بأن تكون مما يتزين به. المغني (1/63), وكشاف القناع عن متن الإقناع (1/53).
ثم انتقل المؤلف –رحمه الله-إلى ذكر ما يتعلق بنوع من الآنية، وهي الآنية المأخوذة من الجلود، فلذلك بحث ما يتصل بالجلود، فقال: (ولا يطهر جلد ميتة بدباغ) العلة في ذكر هذا في باب الآنية أن من الآنية ما يكون من الجلود، فاحتاج إلى بيان طهارة هذا النوع، وما يتصل به من أحكام.
يقول –رحمه الله-: (ولا يطهر جلد ميتة بدباغ) هذا تقرير لأثر الدباغ في الجلود، وأن الدباغ لا يؤثر في طهارة الجلد، والمقصود بالجلود هنا بين، وقال: (لا يطهر جلد ميتة بدباغ) يشمل كل ميتة سواء كانت مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل، وسواء مما كان يحكم بطهارته في الحياة أو لا، فــ(لا يطهر جلد ميتة بدباغ) أي بسبب الدباغ روي ذلك قال: (روي عن عمر وابنه وعائشة وعمران بن حصين رضي الله عنهم). المغني (1/49)، والكافي في فقه الإمام أحمد (1/48).
والعلة فيما ذكر المؤلف –رحمه الله-من عدم طهارة الجلود بالدباغ ما جاء في حديث عبد الله بن عكيم، وهو حديث شهير في باب طهارة الجلود، وفيه قال عبد الله ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «قرأ علينا كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ونحن بأرض جهينة ألا تستمتعوا من الميتة بشيء إيهاب ولا عصب» أخرجه أبو داود (4128)، والترمذي (1729)، والنسائي (4251)، وابن ماجه (3613). هكذا جاء عن عبد الله بن عكيم، وفي رواية قال: «لا تنتفعوا من الميتة بإيهاب ولا عصب».
والحديث في مسند الإمام أحمد مسند الإمام أحمد (18780).، وقد اختلف فيه اختلافًا كثيرًا، وجه الدلالة من الحديث: أن النبي –صلى الله عليه وسلم-نهى عن الانتفاع من الميتة بإيهاب ولا عصب، فدل ذلك على أن نجاسة الميتة لا يزل بالدباغ إلا أن هذا الحديث كما ذكرت في إسناده ضعف، ولذلك قيل: إنه منقطع، فإن عبد الله بن عكيم، وإن كان أدرك زمن النبي –صلى الله عليه وسلم-لكنه لم يعرف له سماع صحيح من النبي –صلى الله عليه وسلم-ذكر ذلك أبو حاتم وغيره. ينظر معالم السنن للخطابي (4/187)، والاستذكار لابن عبد البر (1/49).
وأيضًا ذكروا في الحديث اضطراب في إسناده وعلى كل حال الحديث لا يقوى على رد أو معارضة ما جاء من الأحاديث الصحيحة الصريحة في طهارة الجلود بالدباغ، فقد جاء ذلك في أحاديث عديدة عن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-فجاء في حديث ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «إذا دبغ الإيهاب فقد طهر» أخرجه مسلم (366). وهذا نص في الحكم والحديث عند مسلم، وفي السنن أو عند الأربعة قال: «أيما إيهاب قد دبغ فقد طهر» أخرجه الترمذي (1728)، والنسائي (4241). وجاء في حديث سلمة بن المحدق ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «دباغ الميتة طهورها» أخرجه ابن حبان في صحيحه (1290).وهو في صحيح ابن حبان وقد صححه.
فلذلك وقع اختلاف في طهارة الجلود هل تطهر الجلود بالدباغ أو لا؟ وأيضًا اختلفوا فيما يطهر من الجلود بالدباغ من جلود الميتة بالدباغ.
إذًا الآن عندنا قوله: (لا يطهر جلد ميتة) خرج به جلد غير الميتة التي زكيت فهي طاهرة، وإنما البحث في الميتة، فالمزكاة جلدها طاهر، وأما غير المزكاة فهي التي ذكر فيها المؤلف –رحمه الله-عدم الطهارة، وقد ذكرنا عُدّة من قال بعدم الطهارة، وذكرنا ما يقابل ذلك من حديث ابن عباس، وحديث سلمة بن المحدق رضي الله تعالى عنهم.
ولهذا تنوعت طرائق العلماء في الحكم على هذه المسألة وتعددت أقوالهم:
القول الأول: عرفنا المذهب أنه لا يطهر جلد ميتة بدباغ، بمعنى أن جلود الميتة إذا دبغت تبقى نجسة فلا تطهر، وهذا يشمل كل جلود الميتة بلا استثناء سواء مما لا يؤكل لحمه أو لا، وسواء مما يكون طاهر في الحياة أو لا. المغني (1/49).
القول الثاني: قول الظاهرية إن الدباغة تطهر جميع الجلود بلا استثناء، واستدلوا لذلك بالعموم لحديث ابن عباس وحديث سلمة بن المحدق حيث قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إذا دبغ الإيهاب فقد طهر» أخرجه مسلم (366). قال: والإيهاب هنا اسم جنس، وكذلك في قول: «أيما إيهاب قد دبغ فقد طهر» أخرجه الترمذي (1728)، والنسائي (4241).، وأما حديث سلمة قال: دباغ جلود الميتة جلود جمع مضاف فيفيد العموم هذا وجه استدلال الظاهرية على ما ذكروا من طهارة جميع جلود الحيوان دون استثناء. المحلى بالآثار لابن حزم (1/128).
الثانية: أن الدباغ تطهر جلود ما يؤكل لحمه من الحيوان.
هذه أقوال أهل العلم ـ رحمهم الله ـ فيما يتعلق بطهارة الجلود، وأقربها ما ذهب إليه الشافعي –رحمه الله-من أن جميع جلود الميتة تطهر بالدباغ إلا الخنزير والكلب:
أما الخنزير: فلأن الله ـ تعالى ـ ذكر نجاسة عينه بقوله: ﴿قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ﴾[الأنعام: 145] فنص على نجاسة عين الخنزير.
وقوله –رحمه الله-بعد ذلك: (ويباح استعماله) أي استعمال الجلد بعد الدباغ ثم ذكر كيف تحصل الدباغة، فبين أن ثمة فرق بين الطهارة والاستعمال، لكن قيد الاستعمال في اليابس قال: (يباح استعماله بعد الدباغ) في يابس فخرج بالاستعمال في المائع، وهذا فيه نوع من المفارقة يعني إذا كان لا يحكم بطهارته، فاستعماله نوع من المباشرة والتناول للنجاسة، وهذا مخالف للأصل في أن النجاسة يطلب مفارقتها ومباعدتها. شرح منتهى الإرادات (1/31)، والمغني (1/52).
وقوله –رحمه الله-: (يباح استعماله بعد الدبغ بطاهر منشف للخبث. قال في الرعاية: ولا بد من زوال الرائحة الخبيثة وجعلوا المصران والكرش وترا دباغًا ولا يحصل بتشميس ولا تتريب) هذا بيان أن الدباغ يحصل بما يزيل الرائحة الخبيثة والعفونات المبدع في شرح المقنع (1/52). والعلماء ـ رحمهم الله ـ اختلفوا فيما يتعلق بالدباغ هل يحصل بالتتريب والتشميس؟! أم أنه لا بد فيه من غسل؟! ولا بد فيه من عمل معين الفروع وتصحيح الفروع (1/113), و المبدع في شرح المقنع (1/52).، فذهب المالكية الذخيرة (1/166). إلى أن حقيقة الدبغ هي إزالة عفونة الجلد والفضلات وتهيئة الانتفاع به على الدوام.
على أي وجه كان نحن ذكرنا أولا أن الحنابلة ذكروا في الدباغ، فذكروا أنه لا بد من طاهر منشف للخبث يذهب الرائحة ولا يحصل الدبغ بتشميس ولا تتريب، وذكرت أيضًا أن المالكية اعتمدوا في ذلك أنه كل ما حصل به إزالة العفونة والفضلات وهيء به الجلد للانتفاع على الدوام يحصل به الدباغ دون تقييد بطريق معين فيحصل بتشميس وتتريب وبغسل وبدون غسل كل هذا مما يحقق المطلوب، وهذا هو الأقرب إلى الصواب فيما يتعلق بما يحصل به الدباغ.
قال –رحمه الله-: (ولا يفتقر لفعل آدمي، فلو وقع في مدبغة فاندبغ جاز استعماله (في يابس) لا مائع، ولو وسع قلتين من الماء، إذا كان الجلد)، لأنه من باب إزالة النجاسات وإزالة النجاسات من باب التروك، وهذا لا يطلب فيه فعل أو نية. المغني (1/52)، والمبدع في شرح المقنع (1/52).
قوله: (في يابس) هذا بيان ما يباح من أوجه الاستعمال بعد الدباغ، فقيد ذلك باستعماله (في يابس لا مائع ولو وسع قلتين من الماء)، فيستعمل في مائع دون غيره، والجمهور على خلاف هذا، وهو رواية في مذهب أحمد من أن جلود الميتة إذا دبغت طهرت، وجاز استعمالها في جميع أوجه الانتفاع، فيجوز التطهر منها الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (1/164), والفروع وتصحيح الفروع (1/109).، والدليل ظاهر في ذلك حيث قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «أيما إيهاب دبغ فقد طهر» أخرجه الترمذي (1728)، والنسائي (4241). وإذا دبغ الإيهاب فقد طهر، وإذا طهرت بالدباغ حل الانتفاع بها في كل أوجه الاستعمال.
وقوله –رحمه الله-: (من حيوان طاهر في الحياة مأكولا كان كالشاة، أو لا كالهرة) هذا قيد لما يباح استعماله من الجلود، يباح استعماله بعد الدباغ في يابس، وهو القيد الثاني.
فقيود إباحة الاستعمال في المذهب ثلاثة:
الأول: أن يكون بعد الدباغ.
الثاني: أن يكون في يابس.
الثالث: أن يكون من جلد حيوان طاهر في الحياة.
فخرج به معنى الحيوان الطاهر في الحياة، وهذا إحدى الروايات عن الإمام أحمد –رحمه الله- والرواية الثانية تقييد ذلك بما يباح أكله. المغني لابن قدامة (1/49).
قال: (أما جلود السباع كالذئب ونحوه مما خلقته أكبر من الهر ولا يؤكل، فلا يباح دبغه والاستعمال قبل الدبغ ولا بعده ولا يصح بيعه، ويباح استعماله منخل من شعر نجس في يابس)، وقد تقدم الخلاف في هذا الموضوع في قوله: (ولا يطهر جلد ميتة بالدباغ) عند الكلام على قيود الميتة التي يطهر جلدها بالدباغ، وذكرنا هناك أن الراجح طهارة جميع الجلود إلا جلد الكلب والخنزير، والناس اليوم يستعملون جلود السباع وسائر الحيوان في أنواع كثير من الاستعمالات، ففي هذا القول ـ قول الشافعي ـ توسعة، تستعمل تلك الجلود في صناعة الشنط، وتستعمل في الألبسة وأوجه كثيرة من أوجه الاستعمال. الحاوي الكبير (1/59), والمجموع للإمام النووي (1/221).
قال –رحمه الله-: ((ولبنها) أي: لبن الميتة،(وكل أجزائها) كقرنها وظفرها، وعصبها، وعظمها، وحافرها، وإنفحتها، وجلدتها (نجسة))أي الميتة لبن الميتة، وكل أجزائها كقرنها وظفرها وعصبها وعظمها وحافرها وأنفحتها وجلدتها نجسة فلا يصح بيعها، واستدلوا لذلك بأن الجلد جزء منها نجس، فكذلك جميع أجزائها ؛ ولعموم إثبات النجاسة في الميتة. المبدع في شرح المقنع (1/53)، والمغني (1/54).
قال: (ولا ينجس باطن بيضة مأكول صلب قشرها بموت الطائر)، لأنه إذا صلب كان عازلًا بين ما في داخل البيض، وما في خارجه كان حاجزًا فلا ينتقل أثر النجاسة إلى ما وراء القشر. المغني (1/55).
ثم قال: ((وما أبين) من حيوان (حي فهو كميتة)) هذا أيضًا من مواضع الاستطراد التي ذكرها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في كتاب الطهارة في باب الآنية مع كونه يرتبط أيضًا بباب الأطعمة، لكن ذكروا هنا استطردًا لبيان ما يتعلق بالطهارة والنجاسة (وما أبين من حيوان حي فهو كميتته)، واستدلوا لذلك بما جاء في السنن من حديث أبي واقد الليثي قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ما قطع من البهيمة وهي حية فهو كميتته» أخرجه أبو داود (2858)، والترمذي (1480)، وأحمد (21904). وهذا محل اتفاق بين أهل العلم فيما ذهب إليه أصحاب المذاهب من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، فكلهم متفقون على أن ما قطع من الحيوان وفيه حياة مستقرة، فهو كميتته طهارةً ونجاسةً. بدائع الصنائع (1/63)، وبداية المجتهد (1/78)، و المجموع للنووي (2/562)، والمغني (1/54).
ووجهه: أن النبي –صلى الله عليه وسلم-شبه المقطوع بميتة ما أبين منه، فدل على أنه يأخذ حكم أصله في الطهارة والنجاسة.
والطريدة: وهي الصيد الذي لا يقدر عليه أو الشارد من غير الصيد الذي لا يقدر عليه، إلا برميه وتقطيع أجزائه، فإنه لا يأخذ حكم الميتة فإذا رمى صيدًا فبتر منه شيئًا ثم مات الصيد فإنه ما قطع منه حال حياته يكون طاهرًا مباحًا، كما سيأتي في الصيد.
قال: (وتأتي في الصيد) أي تفاصيل حكمه، وبهذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف –رحمه الله-في باب الآنية.