الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
تقدم في هذا الباب أقصد باب السواك وسنن الوضوء ما يتعلق بالسواك، فذكر ما يسن في السواك ثم عطف على ذلك ذكر جملة من الآداب المتعلقة بسنن الفطرة، وذلك أن السواك معدود في سنن الفطرة، فقد جاء في أوسع حديث ذكرت فيه سنن الفطرة حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «عشرةٌ من الفطرةِ قصُّ الشاربِ وإعفاءُ اللحيةِ والسواكُ والاستنشاقُ بالماءِ وقصُّ الأظفارِ وغسلُ البراجِمِ ونتفُ الأبطِ وحلقُ العانةِ وانتقاصُ الماءِ»أخرجه مسلم (261)، وأبو داود (53)، والترمذي (2757)، والنسائي (5040)، وابن ماجه (293)، وأحمد (25060)ولذلك عطف المؤلف –رحمه الله-على ذكر السواك جملة من الآداب المتعلقة بسنن الفطرة.والمقصود بالفطرة هنا: هي الخلقة المستقيمة التي خلق الله ـ تعالى ـ الناس عليها، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾[الروم: 30] تتعلق بإفراد الله ـ تعالى ـ بالعبادة، وتتعلق بجملة من الآداب والخصال والطباع السوية التي جبل الله ـ تعالى ـ الناس عليها «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ علَى الفِطْرَةِ» أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) كما قال –صلى الله عليه وسلم-فيما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وليس كل ما ذكر من سنن الفطرة، لكن غالب ما ذكر بعد السواك من سنن الفطرة، فمما ذكر من الآداب ليست من السنن المنصوص عليها في سنن الفطرة، لكنها في معناها:الإدهان.قال –رحمه الله-: (ويَدَّهِنُ) استحباباً (غِبّاً)، يوماً يدَّهنُ ويوماً لا يدَّهنُ) أي يستعمل الدهن ويذكر موضعه فيشمل كل بدن الإنسان رأسه ولحيته وسائر بدنه المغني لابن قدامة (1/69)، والمبدع في شرح المقنع (1/82)وقوله: (استحبابًا) أي أن ذلك على وجه الاستحباب، وبما أنه ذكر أن ذلك على وجه الاستحباب فلا بد من دليل ؛ لأن المستحب لا يثبت إلا بدليل، وقد ذكر ابن تيمية ينظر الفتاوى: (١٨/ ٦٥، ٦٨)–رحمه الله-وغيره ذكر الإجماع على أنه لا يثبت لشيء وجوب واستحباب إلا بدليل، والدليل إما أن يكون نصًا، وإما أن يكون مما يفهم بدلالة الخطاب وفحوى الخطاب، وإما أن يكون مما يوافق معنى المنصوص، فإن ما وافق معنى المنصوص يصلح أن يكون مندرجًا فيما دل عليه النص.ولهذا لو قال قائل: ما الدليل الخاص الدال على استحباب الإدهان؟! قلنا: لم يرد في ذلك نص خاص، لكن جاء في ضمن ما ورد عنه –صلى الله عليه وسلم-ما يدل على ذلك.قال –رحمه الله-: (غِبّاً) أي أن ذلك لا على وجه الدوام، لأن فعل ذلك يفضي إلى الإرفاه وقد نهى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن الإرفاه، فقد جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم-في السنن من حديث عبد الله بن مغفل أنه قال: «نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-عن الترجل إلا غِبّاً» أخرجه أبو داود (4159)، والترمذي (1756)، والنسائي (5055)، وأحمد (16839)، وذكر ذلك المصنف –رحمه الله-وفي رواية لعبد الله بن شقيق ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: « كان ينهانا عن الإرفاه قلنا: وما الإرفاه؟ قال: الترجل كل يوم» أخرجه النسائي (5058)، ففسر الإرفاه المنهي عنه بالترجل كل يوم.
فقوله: (غِبّاً) مأخوذ من نهيه –صلى الله عليه وسلم-عن الترجل إلا غِبّاً ومن نهيه عن الإرفاه.
وقوله: (يومًا بعد يوم) هذا تفسير لـ (غِبّاً) يومًا بعد يوم أي يدهن يومًا ويومًا لا يدهن، وتفسير ذلك بهذا النحو محل تأمل وذلك أن الغب هو ترك الشيء أحيانًا وفعله أحيانًا، لكن لم يرد في ذلك ما يمكن أن يصار إليه بتحديد يوم أو يومين أو ما أشبه ذلك، وبالتالي يرجع في ذلك إلى العرف ولا يقيد بقيد إلا أن يأتي بذلك نصًا المغني لابن قدامة (1/69)، والمبدع في شرح المقنع (1/82)
لقائل أن يقول: ما وجه الدلالة في الحديث على الإدهان والحديث نهي عن الترجل إلا غبًا؟!
الجواب: أنه مما جرى به العمل في الترجل استعمال الدهن في ترجل الشعر وتسريحه، ولذلك قال: (والتَّرَجُّلُ: تسريح الشعر ودهنه) هذا بيان وجه الدلالة، وهل يثبت بهذا استحباب؟
الجواب: نعم يثبت بهذا الحديث استحباب مع أنه نهي، لكنه نهي عن إدامة ذلك وهو منطوق الحديث، وأما مفهومه فهو طلب ذلك على الوجه الذي لا يكون دائمًا، فدل ذلك على الاستحباب، ولكون هذا قد ينازع جاء بما يضده، فقال: لحديث «أربع من سنن المرسلين: الحناء، والتعطر، والسواك، والنكاح» أخرجه الترمذي (1080)، وأحمد (23628)وهذا الدلالة فيه مستفادة من قوله "أربع من سنن المرسلين" وموضع الشاهد فيه قوله: "الحناء" فالحناء يكون في الشعر خضابًا وهذا يرافقه من الدهن ونحوه ما يكون دال على ما ذكره المصنف –رحمه الله-من استحباب الإدهان غبًا.
وقوله: (ويكتحل) هذا ثالث ما ذكره من الآداب بين يدي سنن الوضوء، فذكر أولا السواك ثم عقب بالإدهان ثم جاء بالاكتحال قال: (ويكتحل في كل عين وترًا) أي ويستحب أن يكتحل أن يستعمل الكحل في كل عين وترا ثلاث بالأسود، (وترًا) أي يفعل ذلك على الوتر، مرة، ثلاث، خمس، على حسب ما تقتضيه حاجته.
وقوله: (بالإثمد) هذا بيان لأفضل ما يكتحل به، وهو الإثمد المطيب.
وقوله –رحمه الله-: (ويكتحل وترًا) لم يقيد المؤلف –رحمه الله-ذلك بسبب، يعني لم يقيده بالتداوي أو بغيره وهذا هو المذهب أن الاكتحال الذي يسن يشمل الاكتحال للتداوي والاكتحال لغير ذلك، كاكتحال الإنسان لعادة أهل بلده، أو للتجمل ونحو ذلك، وهذا من مسائل الخلاف بين الفقهاء في استحباب الاكتحال، فالذين ذكروا الاكتحال أو السنية قالوا: إن ذلك على وجه التداوي، وأما إذا اكتحل تزينًا فلهم في ذلك ثلاثة أقوال: الكراهة، والاستحباب، والتحريمشرح العمدة (2/104), و حاشية ابن عابدين(2/113)، والبجيرمي على الخطيب(4/291) ، والمغني (1/93)، والفتاوى الهندية (5/359).
فثمة ثلاثة أقوال في الاكتحال تزينًا، وظاهر المذهب أنه يجوز الاكتحال لأجل التزين ؛ لأنه لم يقيدوا ذلك بما يكون تداويًا، وإن كان ظاهر الكلام وظاهر السياق الذي ذكروا فيه أنه على وجه المعالجة، لا على وجه طلب الجمال والحسن ؛ لأن الاكتحال الذي يكون في نحو ما ذكروا لا يكون عادة تزينًا إنما يكون تداويًا حيث إنهم قالوا: (كل ليلة قبل أن ينام) وهذا في العادة النوم لا يطلب له تزين، لكن لو فعله تزينًا الذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أنه يندرج في عموم ما ذكروه، لأن الكحل يستعمل لهذا الغرض وذهب الحنفية إلى الكراهة الفتاوى الهندية (5/359)ولمالك قولان في المسألة المشهور عن المالكية التحريم تحريم الاكتحال تزينًا الفواكه الدواني (2/441).
والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ في الاكتحال أن مجموع ما جاء فيه من نصوص يدل على استحبابه، ولا فرق في ذلك بين أن يفعل تزينًا أو أن يفعل تداويًا، وأما تحديده بما ذكر من كون ذلك ثلاث، فهذا لعموم ما جاء عنه –صلى الله عليه وسلم-أنه كان يحب أن يقطع العمل على وتر «إنَّ اللهَ وترٌ يحبُّ الوترَ» أخرجه البخاري (6410)، ومسلم (2677)
قال –رحمه الله-: (ويسن نظر في مرآة) هذا بيان لأدب من الآداب المتعلقة بجملة ما يتحلى به المؤمن وهو النظر في المرآة ؛ لأجل أن يصلح ما يحتاج إلى إصلاحه، ولأجل أن يحمد الله ـ تعالى ـ على ما أنعم عليه به من حسن الخلقة، ولهذا ذكر المؤلف –رحمه الله-قال: (ويقول: «اللهمَّ كما حسَّنْتَ خَلْقي فحَسِّنْ خُلُقي وحرِّمْ وجهي على النَّارِ»لحديث أبي هريرة)، وقد جاء ذلك في حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله تعالى ـ عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال ذلك «اللهمَّ حسَّنْتَ خَلْقي فحَسِّنْ خُلُقي» أخرجه أحمد (3823) في مسند الإمام أحمد، وقد صححه جماعة من أهل العلم، وأخذ منه بعض أهل العلم استحباب النظر في المرآة ؛ لأن هذا ذكر ورد في هذه الحال، وهو النظر في المرآة والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن الاستحباب يحتاج إلى ما هو أوضح من هذا وأجلى، فإن غاية ما في الحديث هو أنه يستحب أن يقول هذا القول عند نظره في المرآة، وليس أن ينظر في المرآة وفرق بين الأمرين.
قال –رحمه الله-: (وتطيب)الفروع وتصحيح الفروع (1/154)، والمبدع في شرح المقنع (1/85)أي ويسن التطيب، وقد تقدم في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-أربع من سنن الفطرة الحناء والتعطر وثبت عنه –صلى الله عليه وسلم-أنه قال: «حُبِّبَ إليَّ مِن دُنياكم ثلاثٌ: الطِّيبُ، والنِّساءُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَيْني في الصَّلاةِ» أخرجه النسائي (3939)، وأحمد (14069)فالطيب مما حبب إليه –صلى الله عليه وسلم-فهو من المستحبات، ومن السنن التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمن.
قال –رحمه الله-: (وتجب التسمية في الوضوء مع الذكر) أو مع الذكر وجهان بالضم والكسر، وبالضم ضد النسيان، وقيل: هما لغتان أي أنه المعنى واحد، كلاهما يدل على ضد النسيان وهو تنبه الإنسان للشيء واستحضاره له سواء كان بالضم أو بالكسر.
وقوله –رحمه الله-: (تجب التسمية) أي قوله: بسم الله ولذلك قال الشارح: (أن يقول بسم الله) ولا يحتاج أن يتمها الرحمن الرحيم ؛ لأن التسمية تحصل ببسم الله.
قال: (لا يقوم غيرها مكانها) أي لا يحصل المقصود إلا بهذا الذكر دون غيره، فلو كبر أو سبح أو حوقل أو أتى بما هو تعظيم لله ـ عز وجل ـ لم يتحقق ما يطلب في هذه الحال من التسمية في الوضوء، واستدل لذلك بقوله: (لخبر أبي هريرة مرفوعًا أي عن النبي –صلى الله عليه وسلم-:«لا صَلاةَ لِمَن لا وُضوءَ له، ولا وُضوءَ لِمَن لم يَذكُرِ اسْمَ اللهِ عليه» أخرجه ابن ماجه (397)، وأحمد (11371).
وهذا الحديث عمدة المذهب في وجوب التسمية للوضوء، فإن قوله: (لا صلاة)نفي للصلاة المشروعة، والأصل في النفي كما هو معلوم أن يتوجه إلى الشيء وجودًا وحقيقة، فإن لم يستقم النفي بأن وجد الشيء، فيحمل على الصحة، فإن دل الدليل على الصحة، حمل على الكمال هذا الذي عليه أكثر أهل العلم فيما يتعلق بما يتصل بالترتيب الذي يصار إليه عند ورود نفي كهذا، فقوله: «لا صَلاةَ لِمَن لا وُضوءَ له» نفي الصلاة لمن لا وضوء له وهذا محل إجماع، وقوله: «ولا وُضوءَ لِمَن لم يَذكُرِ اسْمَ اللهِ عليه» هذا موضع الشاهد أي لا يصح وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه بأن يقول: (بسم الله) وهذا مما استند إليه الحنابلة ـ رحمهم الله ـ في وجوب التسمية ؛ لأن قوله: (ولا وُضوءَ) نفي لصحة الوضوء الذي لم يذكر اسم الله عليه.
وقد نوقش الاستدلال بهذا الحديث: بأنه حديث ضعيف ينظر العلل الكبرى للترمذي ص (35)، وعارضة الأحوذي (1/58) ، ونوقش أيضًا: بأن النفي في هذا الحديث نفي للفضيلة والكمال وليس نفيًا للصحة جمعًا بينه وبين الأحاديث الأخرى في صفة وضوء النبي –صلى الله عليه وسلم-حيث إن الأحاديث الأخرى التي وصف فيها وضوء النبي –صلى الله عليه وسلم-ليس فيها ذكر للتسمية فدل ذلك على أن قوله: «ولا وُضوءَ لِمَن لم يَذكُرِ اسْمَ اللهِ عليه» نفي فضيلة وكمال عن القول بصحة الحديث وثبوته.
وقوله –رحمه الله-: (وتسقط مع السهو، وكذا غُسلٌ وتيمُّمٌ) أي وجوب التسمية في الوضوء يسقط مع السهو، وهذا بيان لمعنى قوله: (مع الذكر) لأن الوجوب مقيد بالذكر، فإذا لم يذكر بأن نسي أو سهى سقطت التسمية الفروع وتصحيح الفروع (1/173)، والمبدع في شرح المقنع (1/86)
وقوله: (وتسقط مع السهو) مقصودهم أنه إذا أتم وضوئه ولم يذكر التسمية إلا بعد فراغه من وضوئه، فإنها تسقط، أما إن ذكرها أثناء الوضوء فإنه يستأنف، أي إذا ذكرها في أثناء وضوئه فإنه يستأنف الوضوء، وقد ذكر ذلك أي وجوب الاستئناف في "الإنصاف" الإنصاف في الراجح من الخلاف (1/277) وفي "مطالب أولو النهى" مطالب أولي النهى (1/100).
وأما في "الإقناع" فقال: (وإن ذكرها في أثنائه سمى وبنى) الإقناع في فقه الإمام أحمد (1/25) وهذا يفيد أن في المذهب قولًا آخر، وهو إن ذكرها في أثناء الوضوء فإنه لا يستأنف، فقوله: (وتسقط مع السهو) أي يسقط وجوبها مع السهو، فإن ذكرها بعد الفراغ سقطت وإن ذكرها في أثناء وضوئه فثمة قولان: المغني لابن قدامة (1/77)
القول الأول في المذهب: وهو المذهب أن يستأنفه يسمي ويستأنف.
والقول الثاني: أنه إن ذكرها في الأثناء سمى وبنى.
وقوله –رحمه الله-: (وكذا غُسلٌ وتيمُّمٌ) أي ويجب التسمية في الغسل والتيمم ؛ لأنهما طهارتين يثبت فيهما ما يثبت في الوضوء، وذكر الوضوء هنا لا على وجه الحصر، إنما المقصود به ما يكون بين يدي الصلاة بالطهارة هذا وجه الدلالة.
وما يكون بين يدي الصلاة بالطهارة ثلاثة أنواع:
إما غسل، وإما وضوء، وإما تيمم على حسب حال القائم إلى الصلاة.
وذكر الوضوء على وجه الخصوص ؛ لأنه الغالب الذي يكون في حال الإنسان أن يحتاج إلى وضوء، ومعلوم أن ما خرج مخرج الغالب لا يفهم منه قصر الحكم عليه، فلا يأخذ من مفهوم المخالفة أنه لا يجب في غير الوضوء هذا وجه الدلالة في قوله: (وكذا غسل وتيمم).
فقوله: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ» أخرجه الترمذي (25) واللفظ له، وابن ماجه (398)، وأحمد (16651) يفهم منه: أنه لا صلاة لمن لا غسل له فيما إذا كان الواجب الغسل، ويفهم منه أنه لا صلاة لمن لا تيمم له إذا كان الواجب هو التيمم.
وقوله: «وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ» يفهم منه: ولا غسل لمن لم يذكر اسم الله عليه لمن كان الواجب في طهارته الغسل، وفي التيمم: ولا تيمم لمن لم يذكر اسم الله عليه لمن كان الواجب في طهارته التيمم.
ولقائل أن يقول: من أين استفيد الاستحباب إذا كان الحديث ضعيفًا؟
فالجواب: أن من الفقهاء من ذكر قاعدة وهي أنه إذا تضمن الحديث أمرًا وكان ضعيفًا ضعفًا ليس بالشديد ، فإن الأمر في هذا الحديث يحمل على الاستحباب، وإن كان نهيًا فإنه يحمل على الكراهة، ذكر ذلك ابن مفلح في كتاب النكت على المحرم.
وهذا يشكل عليه ما تقدم قريبًا من حكاية الإجماع على أنه لا يثبت وجوب ولا استحباب إلا بدليل أي إلا بنص صحيح.
ويجاب عليه: بأن الاستحباب الثابت بالحديث الضعيف الذي ليس بشديد الضعف، هو من باب احتمالية ثبوت الحديث، وليس أنه إثبات حكم بلا دليل، أو بحديث شديد الضعف لا يحتج به.
وأما بخصوص التسمية فيمكن أن يقال إنه يدل على استحباب التسمية ما جاء في النسائي من حديث أنس أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال لأصحابه: «توضئوا بسم الله» أخرجه النسائي (78)، وأحمد (12694) باختلاف يسير، وأصله في صحيح البخاري (200)، ومسلم (2279) وهذا يفيد الاستحباب فإن قوله: «توضئوا بسم الله» ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-اسم الله على الوضوء، فأمرهم بالوضوء بسم الله ـ عز وجل ـ وهذا يدل على الاستحباب.
قوله –رحمه الله-: ((وَيَجِبُ الخِتَانُ) عندَ البلوغِ) كشاف القناع (1/80)، والشرح الكبير (1/109) هذا من سنن الفطرة، وهو مما ذكره المؤلف –رحمه الله-استطراداً، وقد تقدم أن سنن الفطرة متعددة، والختان من سنن الفطرة جاء النص عليه في حديث أبي هريرة ففي الصحيح قال –صلى الله عليه وسلم-: «الفِطْرَةُ خَمْسٌ: الخِتانُ، والِاسْتِحْدادُ، ونَتْفُ الإبْطِ، وقَصُّ الشَّارِبِ، وتَقْلِيمُ الأظْفارِ»أخرجه البخاري (6297)، ومسلم (257) والحديث في الصحيحين، وأما حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ ففي صحيح الإمام مسلم ذكر جملة من سنن الفطرة ولم يتضمن ذكر الختان، إنما الختان ثابت بحديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ في ذكر سنن الفطرة في الصحيحين خمس من الفطرة أو «الفِطْرَةُ خَمْسٌ: الخِتانُ، والِاسْتِحْدادُ، ونَتْفُ الإبْطِ، وقَصُّ الشَّارِبِ، وتَقْلِيمُ الأظْفارِ» وهذه المذكورات في الحديث هي من الآداب والسنن التي راعاها النبي –صلى الله عليه وسلم-وندب إليها، وليست من الفرائض والواجبات فيما يدل عليه الحديث.
قوله –رحمه الله-: ((ويجب الختان)عند البلوغ ما لم يخف على نفسه، ذكراً كان أو خنثى أو أنثى، فالذكر .....إلى آخره) ابتداء –رحمه الله- بذكر وجوب الختان، وهذا ذكر للحكم.
وأما ما يتعلق بمرتبته في المشروعية فهذا محل خلاف بين العلماء، يعني الاتفاق منعقد على مشروعيته على أن الشريعة جاءت به وندبت إليه، لكن ما مرتبة هذه المشروعية؟
وجه الدلالة: قالوا: إن إبراهيم ـ عليه السلام ـ نحن مأمورون بإتباع سنته والجري على ملته، وهذا من سنته فكان واجبًا. تحفة المودود لابن القيم ص (163)
ولكن هذا ليس فيه دليل ؛ لأن هذا فعل، وإذا كان فعل النبي –صلى الله عليه وسلم-وهو الذي أمرنا بإتباعه على وجه الخصوص، وفعله لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب، فغيره من باب أولى.
وعلى القول: بثبوته فإنه لا يدل على الوجوب، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم-لم يأمر بذلك كل من أسلم، فأمره –صلى الله عليه وسلم-لصحابي بذلك يدل على الاستحباب ولا يدل على الوجوب بدلالة أنه لم يشتهر أمر النبي –صلى الله عليه وسلم-كل من أسلم بهذا الأمر هذا على القول بصحة الحديث وثبوته على أن أكثر أهل العلم على تضعيف هذا الحديث وعدم صحته، هذا ما يتصل بقوله –رحمه الله-: (ويجب الختان) وقيد الوجوب (ما لم يخف على نفسه)، فإن كان يخاف على نفسه، فإنه لا يلزمه يسقط الوجوب.
وقوله: (عند البلوغ) هذا بيان منتهى الوقت الذي يكون فيه البلوغ، فالبلوغ مشروع لكن يتحقق الوجوب عند البلوغ ؛ لأنه سن التكليف.
وقوله: (ذكرًا كان أو خنثى أو أنثى) دلالة على عموم وجوب الختان، وذلك أن الأدلة لم تفرق بين الذكر والأنثى.
واستدلوا للاستحباب بحديث أبي هريرة: «الفطرة خمس: الختان» أخرجه البخاري (6297)، ومسلم (257) وهذا مما يشترك فيه الرجال والنساء ؛ لأن الختان القطع، وما يقطع موجود عند الرجل وعند المرأة، فقالوا: هو من السنن المشتركة، لكن جعلوه واجبًا في الرجال ومستحبًا في النساء، ومما يدل على أن الختان يكون في النساء أيضًا كما يكون في الرجال ما في الصحيحين من حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «إذا التقى الختانانِ أو مسَّ الخِتَانُ الختانَ فقد وجب الغُسْلُ»أخرجه ابن ماجه (608)، وأحمد (26067) فدل على أن المرأة تختن كما يختن الرجل؛ لقوله: «إذا التقى الختانانِ»أي موضع الختان سواء ختن أو لم يختن.
وطرد القول أن يقال: إن الختان لا يجب بل هو مستحب للرجال والنساء على حد سواء، وهذا القول أقرب إلى الصواب وهو الرواية الثانية عن أحمد رحمه الله.
قال: (فالذكر بأخذ جلدة الحشفة)، الحشفة هي رأس الذكر، وسمي رأس الذكر بالحشفة ؛ لأنه يشبه حشف التمر، وسمي بهذا تشبيها له بحشف التمر وهو ما يبس منه.
قال: (والأنثى تأخذ جلدة فوق محل الإيلاج تشبه عرف الديك، ويستحب ألا تؤخذ كلها) وتقدم هذا في التعريف.
قال: (والخنثى بأخذهما) أي يأخذها من الموضعين ؛ لأن عنده آلة ذكر وآلة أنثى ولم يتبين، فإذا تبين كان المشروع فيما تبين فيه من جنس، فإن تبين أنه ذكر كان في الذكر، وإن تبين أنه أنثى كان فيما يكون فوق محل الإيلاج.
قال: (وفعله) أي الختان (زمن صغر أفضل)، لأنه أيسر وأسهل وأقل ألمًا من الكبير.
قال: (وكره في سابع يومومن الولادة إليه) أي ويكره الختان في الأيام السبعة الأولى من ولادته والسبب في هذه الكراهة خشية تضرره لضعف بنيته شرح منتهى الإرادات (1/45), والفروع (1/158)
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد أنه لا يكره وهذه الرواية هي الأقرب إلى الصواب الشرح الكبير على متن المقنع (1/110)، والفروع وتصحيح الفروع (1/158) ، واليوم يحصل ختان في هذه المدة ولا يحصل ضرر ؛ لتقدم حال الناس في الطب، وما يكون من العلاج وقد يكون أيسر للطفل إذ إن الإحساس عنده في هذه الفترة ليس مكتملًا، فيكون الألم الذي يصيبه دون ما يصيبه في الكبر.