قوله رحمه الله: "الثالث" هنا شرع في ذكر أول عقود التبرعات؛ لأنه في هذا القسم، وهو إخراج الأموال بغير عوض، ذكر عقودًا وأنواعًا من إخراج المال لا توصف بأنها عقد.
فقوله رحمه الله: "الوقف" هو من أنواع عقود التبرعات، قال فيه: "وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة". الوقف من أجلِّ القربات التي ندب إليها الإسلام، وهي من خصائص هذه الشريعة المباركة؛ لأنه لم يكن من أوجه التقرب في الزمن السابق، وقد أوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، ولذلك قل في الصحابة من ذوي الأموال من لا وقف له، فأبو بكر كان له وقف، وعمر كان له وقف، وعثمان كان له وقف، وكذا جلُّ الصحابة الذين وسَّع الله تعالى عليهم كان لهم أوقاف رضي الله تعالى عنهم، وقد جاءت وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر في أنفس مال أصابه، حيث إنه -رضي الله عنه- أصاب أرضًا بخيبر، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر، هي أنفس مال عندي، لم أصب مالًا أنفس عندي منه قط، فمرني فيها ما أفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ حَبَّسْتَ أَصْلَهَا وَسَبَّلْتَ مَنْفَعَتَهَا».
وهذا معنى قوله رحمه الله في الوقف وتعريفه:"تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة". تحبيس الأصل أي: منعه من البيع والميراث وسائر الانتقالات التي ينتقل بها الملك، وتسبيل المنفعة أي: إباحة المنفعة لأوجه البر وصالح المصارف.
فقوله: "وهو تحبيس الأصل" أي: حبسه ومنعه من الانتقال ببيع ونحوه، وتسبيل المنفعة أي: إباحة المنفعة لمن أبيحت له من أوجه البر؛ إما على جهة عامة، وإما على جهة خاصة.
قوله: "من كل جائز التصرف" أي: يكون الوقف من كل جائز التصرف، وأجود منه لو قال: من كل جائز التبرع.
قوله رحمه الله: "في بر" هذا إذا كان على جهة عامة، ذكرت في الوقف إما أن يكون على جهة عامة، كأن يكون على المساجد، أو على طلبة العلم، أو على الفقراء، أو على الأطباء، أو على المتعلمين، أو على العاملين في نظافة الطرقات العامة، أو ما أشبه ذلك من الجهات العامة التي لا يختص بها فرد.
يُشترط في الوقف إذا كان على جهة عامة أن يكون على بر، فلا يصح أن يوقف على المغنين، هذه جهة عامة لا يصح فيها الوقف؛ لأن هذا ليس من أعمال البر، لا يصح أن يوقف على الأعمال التي لا توصف بأنها بر؛ فإن ذلك كله لا يصح فيه الوقف؛ لأن الوقف لا بد أن يكون على جهة بر. هذا إذا كان عامًّا، أما إذا كان خاصًّا بأن أوقف على زيد أو عمرو فإنه يصح الوقف حتى على الكافر، فلا يشترط أن يكون على بر إذا كان على جهة خاصة؛ لأن الوقف على الشخص قد يكون برًّا في ذاته، ولو كان على كافر، فلذلك اشترطه هنا في قوله: "في بر" أن يكون الوقف في بر إذا كان على جهة عامة.
قوله رحمه الله:"بلفظ صريح أو كناية"، بيان صيغة الوقف وأن صيغة الوقف نوعان: إما صريح وإما كناية. بلفظ صريح، كأن يقول: أوقفت هذه الأرض لدور التحفيظ، لطلبة العلم، للأطباء، للمدرسين، لمسجد، للفقراء، لليتامى، هذا بلفظ صريح، أو كناية بلفظ يفهم منه أنه يريد تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهنا لا بد فيه من نية إذا كان الوقف بلفظ غير صريح، لا بد فيه من نية، أما الصريح فلا يحتاج فيه إلى نية، أي: لا نحتاج في إثبات الوقف أن يسأل الواقف عن نيته ماذا تقصد بذلك، ماذا تريد؛ لأن اللفظ يكفي عن أن يسأل عن النية، لكن لو قال: أنا لم أقصد أن يكون على هذا النحو من أنه محبوس الأصل، مسبل المنفعة، إنما قصدت التبرع به مطلقًا، يفعل به ما يشاء من بيع أو غيره، فهذا وجه آخر، عند ذلك يرجع إلى قصده.