"وقد جاءت نصوصُ الوحيين آمرةً بالعدل؛ ناهيةً عن الظلم وأكل المال بالباطل، فمن ذلك قولُ الله تعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَموَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188].
وقوله - تعالى -: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29].
وقوله - تعالى -: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: 85].
وقوله - تعالى -: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعضُهُمْ عَلَى بَعضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [ص: 24].
والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ يصعُب حصرُها؛ إذ كلُّ ما نهى اللهُ عنه راجع إلى الظلم.
وأمَّا الأحاديث التي فيها منع الظُّلم، وتحريمُه في المعاملات والأموال فكثيرةٌ أيضًا؛ منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَموَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» أخرجه البخاري (1739)، ومسلم (1679) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ؟» أخرجه بنحوه البخاري (2198)، ومسلم (1555) .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» أخرجه مسلم (2564) .
ومن الأدلة على وجوب منع الظلم، ووجوب إقامة العدل؛ إجماع أهل العلم على تحريم أخذ أموال الناس ظلمًا وعَدْوانًا.
فتبيَّن من هذا كله أن العدل، ومنع الظلم، أصلٌ واجبٌ في جميع المعاملات، من البِياعات والإجارات، والمشاركات، والوكالات، والهبات، ونحو ذلك؛ لأنه لا تستقيم للناس معاملاتهم إلا بذلك".
إذًا هذه النصوص في الكتاب والسنة، والتي أفادت إجماع علماء الأمة على تحريم الظلم في المعاملات؛ بيِّنة، واضحة الدلالة، على هذا الأصل، وهو أن الأصل في باب المعاملات منع الظلم بكل أوجهه.
والقاعدة الجامعة في معنى الظلم الذي حرَّمته الشريعة في باب المعاملات هو أكل المال بالباطل، وهو أخذ المال بغير حق؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَموَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188] يعني بغير حق، ويقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَموَالَكُمْ بَينَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ يعني بغير حق ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً﴾ هذا استثناء منقطع، والمعنى: لكن أن تكون تجارة، أي: توجد تجارة ﴿عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، فأكل المال بذلك من المباحات.
ثم جاء النهي عن خصوص معاملات تندرج تحت الظلم وهي من صوره؛ كقوله تعالى: ﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: 85] أي: لا تُنقصوهم أشياءهم، وذلك بأخذها بغير حق.
ومما يدل على فشو الظلم في معاملات الناس قول الله تعالى: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعضُهُمْ عَلَى بَعضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [ص: 24].
وذلك أن الإيمان والعمل الصالح يحجزان الإنسان عن التورط في صور الظلم كلها.
وفي الأحاديث ما دلت عليه الآيات من وجوب صيانة الأموال من الظلم؛ ولهذا من ضرورات الشريعة الخمس: حفظ المال، ولا يمكن أن يتحقق حفظ المال إلا بمنع الظلم وإقامة العدل.
فالأدلة على هذا بينة واضحة.
ولا يختص هذا بباب من أبواب المعاملات، بل في كل المعاملات.
وليُعلم أن الرضا بالظلم ليس مبيحًا له؛ لأن من الناس من يقول: إذا رضي المظلوم بالظلم فإن هذا يدل على الإذن به وترتفع المؤاخذة.
الجواب: لا، ما نهى عنه الشارع فإنه لا ينفع فيه رضا من وقع عليه الظلم؛ لأن الشارع نهى عنه لعظيم مفسدته، بغضِّ النظر عن رضا من وقع عليه الظلم، فالربا على سبيل المثال من صور الظلم، فإذا رضي ببذل زيادة على ما ثبت في ذمته لتحقيق مصلحة له أو ما إلى ذلك، فإنه لا يرفع وصف الظلم في المعاملة الموجب للتحريم.
ولذلك الظلم إذا كان النهي عنه بالنص، فإنه لا يرفع التحريم رضا المظلوم به.