قال - رحمه الله-: "والذين أشركوا به تعالى في الربوبيّة منهم من أثبت معه خالقًا آخر، وإن لم يقولوا: إنه إله مكافئ له، وهم المشركون ومن ضاهاهم من القدريَّة".
لما ذكر - رحمه الله - صلة أسماء الله الحسنى بإفراد الله بالعبادة، وأنَّ أسماء الله الحسنى لا يؤمن بها أحدٌ حقَّ الإيمان إلَّا ويقوده ذلك إلى إفراد الملك الديان بالعبودية، فلا يشرك به سواه - سبحانه ويحمده-؛ لأنَّها دالة على عظمته، تملأ قلب العبد بعظيم محبة الله - عزَّ وجلَّ - وتعظيمه، وإذا امتلأ القلب بمحبة الله وتعظيمه لم يكن فيه مكان لسواه، ولم ينصرف العبد إلى غيره، بل حوائجه نازلة بالله - عزَّ وجلَّ-، وحوائجه مقضية به، فلا يتوجه إلى غيره - سبحانه وبحمده -.
عاد المؤلف - رحمه الله - بعد أن ذكر هذا الارتباط بين توحيد الأسماء والصفات وبين توحيد الإلهية؛ إلى الحديث عن الشرك في الربوبية، فقال: "والذين أشركوا بالله - تعالى - في الربوبية"؛ أي: في أنَّه الله الخالق، المالك، الرازق، المدبر؛ هذه قواعد وأصول تحقيق توحيد الربوبية الذي يؤمن بأن الله هو الخالق، بأن الله هو المالك، بأنَّ الله هو الرازق، بأنَّ الله هو المدبر لا خالق سواه، ولا مالك غيره، ولا رازق سواه، ولا مدبر إلَّا هو، فإنَّه يكون قد كمَّل توحيد الربوبية.
وهذا التوحيد جبل الله الفطرة عليه؛ ولذلك كان يقرُّ به عامة الناس إلَّا أفرادًا من الخلق ضلُّوا، فأعمى الله بصائرهم، فأنكروا ذلك إنكارًا باللفظ مع الإقرار بالقلب، كما قال - تعالى -: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾[النمل:14] كفرعون الذي قال: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾[النازعات:24]؛ فهو كاذب، وانتهى مآله إلى أن قال كما حكى الله عنه: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس: 90].
فليس في القلوب من يستقر في قلبه أنَّه لا خالق للكون، ولا ربَّ للكون، بل لا بد أن يؤمن بذلك كلُّ أحد، إنَّما قد يحصل من بعض الناس جحود في وقت من الأوقات استكبارًا، أو إخلالًا باليقين بأنَّ الله هو الخالق، المالك، الرازق، المدبر.
يقول - رحمه الله -: "والذين أشركوا به - تعالى - في الربوبية"؛ يعني في خلقه فأثبتوا خالقًا سواه، في ملكه فأثبتوا ملكًا لغيره، في تدبيره فأثبتوا تدبيرًا لسواه.
"منهم من أثبت معه خالقًا آخر، وإن لم يقولوا: إنَّه إله مكافئ له" وهذا تنبيه مهم؛ وهو أن من أثبت خالقًا مع الله لا يوجد من يقول: إنَّه خالق مكافئ، مساوٍ لله من كل وجه، بل يقول: إنَّه يخلق لكنه لا يكون في القدر، والمنزلة، والقدرة، والقوة كقوة الله - جلَّ وعلا - ومع هذا فهم مشركون، لكن هذا يبيِّن أن الفطر مجبولة على أنَّ الخالق واحد - جلَّ في علاه -.
يقول - رحمه الله -: "وهم المشركون ومن ضاهاهم من القدرية"؛ فالمشركون الذين يعبدون غير الله - عزَّ وجلَّ - يعتقدون أن من يعبدونهم قد يخلقون، قد يملكون، قد يدبرون، لكنهم دون تدبير الله وخلقه، وملكه.
وذكر القدرية، والقدرية هم المكذبون بالقدر؛ ولذلك سموا قدرية، فيزعمون أنَّه لا قدر، وأنَّه لم يعلم الله - عزَّ وجلَّ -، ولم يكتب، ولم يقدر، ولم يعلم حوادث الأشياء قبل وقوعها، فالقدرية هم الذين ينفون علم الله السابق للحوادث، وهم الذين يقولون: إنَّ الإنسان يخلق فعل نفسه، وليس ما يكون منه خلقًا لله - عزَّ وجلَّ -.
وهؤلاء ردَّ عليهم الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، وبيَّنوا كذبهم، وضلالهم، وبينوا انحرافهم وخروجهم عن الصراط المستقيم، فقال فيهم ابن عمر لما حُدثَّ عنهم: «أَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي» أخرجه مسلم (8) يعني ما داموا على هذا القول، وهو أنَّ الإنسان يخلق فعل نفسه، وأنَّ أفعال العباد خارجة عن خلق الله - عزَّ وجلَّ -؛ وهذا نوع من القصور في الربوبية.