"ويُقَابِل هؤلاء القسم الثاني: المُعْرِضُون عن عبادته والاستعانة به، فلا عبادة لهم ولا استعانة، بل إن سأله تعالى أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، والله - سبحانه وتعالى - يسأله مَن في السماوات والأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه، فيُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء، وأبغض خلقه إبليس، ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته ومتَّعه بها، ثم من سأله لم تكن عونًا على مرضاته، ثم من سأله تعالى واستعان به على ما لم يكن عونًا له على طاعته، كان سؤاله مبعدًا له عن الله"؛ أعوذ بالله.
هذا هو القسم الثاني، وهو: من تخلى عن تحقيق العبودية لله، فلم يعبد الله - عزَّ وجلَّ - كما أمره - جلَّ في علاه -، ولم يستعن به - سبحانه وبحمده -، بل ترك طلب عونه على طاعته وعلى أكثر ما يكون من مصالح دنياه، لكنه لا يوجد أحدٌ يستغني عن الله استغناءً تامًّا بأن لا يطلب العون منه، بل لابد لكل مخلوقٍ أن يطلب شيئًا من العون من الله، لما كان هؤلاء يتظاهرون بالاستقلال عن الله وأنهم عنه أغنياء؛ صُنِّفوا ضمن هذا القسم، قِسم من ترك طلب الاستعانة وترك تحقيق العبودية، وهذا يُقابِل القسم الأول وهم أفضل الناس وأشرفهم الذين جمعوا بين طلب العون من الله وبين تحقيق العبادة له - جلَّ في علاه - كما قال تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:5].
فالقسم الثاني يُقابِل القسم الأول، فهؤلاء قومٌ لم يحققوا العبادة لله فلم يعبدوه - جلَّ وعلا - إنما عبدوا أهواءهم واتخذوا آلهةً من دونه - جلَّ في علاه -، سواءً كانت آلهة مُصَوَّرة أو اتخذوا آلهة كما قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23]، فاتخذ هواه وما يشتهيه معبوده الذي يأمره وينهاه وينقاد لأمره ونهيه.
أما ما يتعلق بالاستعانة فليس ثمَّة أحدٌ وإن تظاهر باستغنائه عن الله إلا ولابد أن يطلب عون الله في شيءٍ من الأمور؛ ولهذا قال المؤلف - رحمه الله - في هذا القسم قال: "ويُقابِل هؤلاء القسم الثاني: المعرضون عن عبادته والاستعانة به"، معرضون أي: غافلون عن عبادة الله تعالى وعن طلب العون منه، فلا عبادة لهم ولا استعانة.
بل إن سأله تعالى أحدهم واستعان به يدل على أنه لم يهجر الاستعانة بالكلية، ثمَّة نوع من الاستعانة، لكنهم استعانوا به - جلَّ في علاه - على ما فيه هلاكهم وهو معصية الله - عزَّ وجلَّ -؛ ولذلك يقول: "بل إن سأله تعالى أحدهم واستعان به فعلى حظوظه، وشهواته"، يعني: ملذاته، "والله – سبحانه - يسأله مَن في السماوات والأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه، فيُمِدُ هؤلاء و يُمِد هؤلاء"، فهو الغني الحميد كما قال تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء:20]؛ فالله تعالى يملي لهؤلاء، ويعطي هؤلاء، وهو - جلَّ في علاه - في عطائه ذو حكمة، ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾[الإسراء:18]، وكما قال في الآية الأخرى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء:19-20].
وهذا القسم من الناس وهم الذين يهجُرون عبادته، ويتركون طلب العون منه، يستعينون بالله - عزَّ وجلَّ - في بعض حوائجهم الضرورية وإن كانوا يظهرون خلاف ذلك، ومن أبرز أمثلة هؤلاء: إبليس، الشيطان الرجيم الذي أظهر المعاندة، والاستكبار، والإباء، والتكذيب، والإعراض، فكان مآله أن طرده رب العالمين من رحمته وجعله رجيمًا يُرْجم باللعن وسيئ القول؛ لسوء عمله وفساد سعيه، فهو أبغض الخلق إلى الله - عزَّ وجلَّ -، ومع هذا لمَّا طلب من الله - عزَّ وجلَّ - الإمهال والإِنظار لم يمنعه الله تعالى ذلك، بل قال الله تعالى لما قال له الشيطان: ﴿رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ﴾[ص:79-80]، فأعانه الله على البقاء ويسَّر له ما طلب، لكن هذا التيسير لطلبه كان زيادةً في شقوته، وكان موجبًا لعظيم عقوبته وبُعْدِه عن الله.
ثم يشير المؤلف إلى قاعدة؛ وهي: أنه ليس كلما سألت الله - عزَّ وجلَّ - وأعطاك فمعنى هذا أنه عطاءٌ بِرِضَا، فقد يُعطيك الله ما يكون فيه هلاكك؛ ولذلك كان أفضل ما تسأله الله وأجمل ما تدعو به: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[البقرة:201]، هذا أجمع دعاء يجمع لك خير الدنيا والآخرة، ويقيك شر ما قد تسأله فيكون فيه هلاكك.
إبليس سأل الله - عزَّ وجلَّ - الإنظار، فكان هذا زيادةً في شقوته وفي بُعْدِه عن الله - عزَّ وجلَّ -، وهكذا كل من سأل الله تعالى واستعان به على ما لم يكن عونًا له على طاعته، كان سؤاله مُبْعِدًا له عن الله، فقد يسأله الإنسان مالًا، قد يسأل الإنسان جاهًا، قد يسأل الإنسان شيئًا من مُتع الدنيا، فيُبْعِده ذلك عن الله، لكن هذا لا يعني ألا يسأل ذلك، بل ينبغي أن يسأل ما تحسن به حاله، وأن يستعيذ بالله - عزَّ وجلَّ - مِن أن يكون عطاؤه موجبًا لبُعْدِهِ عنه - سبحانه وبحمده -؛ ولهذا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» أخرجه البخاري (6389)، ومسلم (2690) .
فينبغي ألا يغتر الإنسان بالعطاء، فكَم من مُعْطًى يكون في العطاء هلاكه، وكم من محجوبٍ ممنوعٍ من العطاء تكون سلامته، وصحته، ونجاته في منعه.
أرأيتم الطفل الرضيع الذي تفطمه أمه؛ لتنقله من الحليب إلى ما يحتاجه من طعامٍ يقوم به بدنه ويشتد به أوده، لو طاوعته أمه بإعطاء الحليب أكان ذلك في مصلحته، أم كان ذلك عائدًا عليه بالضرر؟
بالتأكيد هو عائدٌ عليه بالضرر، يبكي، ويصيح، ويطلب ما يَشتهي من حليب، وأمه تمنعه؛ لأن في منعه صلاحه، لأن في منعه صلاحه وقِوَام بدنه، هكذا فيما يتعلق بدعاء الله - عزَّ وجلَّ -، فلا تجزع عندما تُمْنَع ما سألته من خير الدنيا فإن ذلك من حِكمة الله ورحمته، ولن تعود منه إلا بعطاءٍ ورضا - جلَّ في علاه -.
يقول المؤلف - رحمه الله -: "وهكذا كل من سأل الله تعالى واستعان به على ما لم يكن عونًا له على طاعته، كان سؤاله مُبْعِدًا له عن الله، فليتدبر العاقل هذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه، بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه، ويكون منعه منها حمايةً له وصيانة، والمعصوم من عصمه الله" - أسأل الله أن يعصمني وإياكم من كل سوءٍ وشر - "والإنسان على نفسه بصيرة".
وما أجمل أن يمتلأ قلبك رضًا بما يفعله الله - عزَّ وجلَّ - بك من العطاء والمنع؛ فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع.
ومقتضى رضاك بربوبية الله أن ترضى بكل ما أعطاك، وأن ترضى بكل ما منعك، لكن هذا لا يعني أن لا تَسْعى فيما أنت مأمورٌ بالسعي إليه من صلاح معاشك وصلاح نفسك، فإذا مرِضت دفعت قدر المرض بقدر طلب الشفاء؛ فـ«مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» أخرجه البخاري (5678) إذا افتقرت فلا يمنع أن تدفع قدر الفقر بطلب الغِنى الذي يكفيك ويسد حاجتك، فتدفع قدر الله بقدر الله؛ كما قال عمر - رضي الله تعالى عنه - عندما قال له أبو عبيدة: «أَتَفِرُ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ يا أمير المؤمنين؟! قَالَ: نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ» أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219) .
فنحن ندفع قدر الله المكروه بقدر الله المحبوب، وهذا مما يُتَعَبَّد الله تعالى به، وبه ينحل ما قد يُشْكِل على كثيرٍ من الناس فيما يتعلق بالتوفيق بين الرضا بالقدر وبين عدم فعل ما أمر الله تعالى به من أخذ الأسباب التي توصل إلى الثمار وتُبَلِّغ النتائج.
إذًا هذا هو القسم الثاني، وهم: الأشقياء - أعاذني الله وإياكم منهم -، وهم الذين هجروا العبادة وتركوا طلب العون من الله - عزَّ وجلَّ -.